للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تخاذل أمثال عبد الله بن أبي بن سلول مع ثلاث مئة من أصحابه، تحت وطأة الخوف من عواقب القتال، والرغبة في الجنوح إلى السلامة والأمن. وعن تخاذل أولئك الآخرين الذين استعذبوا ظل المدينة وثمارها ومياهها وسط حرارة الصيف، وأعرضوا عن نداء رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخروج والقتال، قائلين: «لا تنفروا في الحر» . بل وعن هزيمة المشركين في غزوة بدر، على الرغم من ضخامة عددهم وقلة المسلمين، ووقوع الرعب في أفئدتهم، وهم هم العرب الذين نشؤوا في ظلال الحروب ورضعوا ألبانها واستهانوا بصعابها.

من الصعوبة البالغة للمنصف أن يتهرب عما تحكم به البداهة الواضحة، من أن سرّ هذا الإقدام على الموت من مثل هؤلاء الأطفال، إنما هو الإيمان العظيم الذي استحوذ على القلب، والذي ترتبت عليه محبّة عارمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فحيثما وجد الإيمان ووجدت هذه المحبة، ظهر هذا الإقدام والاستبسال، وحيثما ضعف الإيمان، وضعفت المحبة في القلب انقلب الإقدام إحجاما والاستبسال كسلا وتقاعسا.

خامسا: إذا تأملت حال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو ينظم صفوف أصحابه ويرتب أجنحتهم، ويضع الحامية اللازمة في مؤخرة المسلمين، ويأمر الرماة أن لا يغادروا أماكنهم مهما وجدوا من أمر إخوانهم المقاتلين حتى يتلقوا الأوامر منه صلّى الله عليه وسلم، نقول: إذا تأملت ذلك اتضحت حقيقة بارزة، ولاحت لك من ورائها ظاهرة هامة أخرى.

أما الحقيقة البارزة، فهي البراعة العسكرية التي كانت تتصف بها قيادته صلّى الله عليه وسلم في الحروب، فقد كان في مقدمة المخططين لفنون القتال وطرائقه، ولا ريب أن الله تعالى قد جهزه بعبقرية نادرة في هذا المجال. ولكننا نقول: إن هذه العبقرية والبراعة إنما يأتي كل منهما من وراء نبوته ورسالته السماوية، فمركز النبوة والرسالة هو الذي اقتضاه صلّى الله عليه وسلم أن يكون عبقريا بارعا في فنون الحرب وغيرها، كما اقتضاه أن يكون معصوما بعيدا عن كل انحراف وزلل. وقد شرحنا هذا في القسم الأول من هذا الكتاب فلا حاجة إلى تكراره.

وأما الظاهرة التي تلوح للمتأمل من خلال توصياته الدقيقة هذه لأصحابه عامة، وللرماة خاصة فهي ظاهرة ذات علاقة وثيقة بما قد تم بعد ذلك من خروج بعض أولئك الرماة على أوامره صلّى الله عليه وسلم. فكأن النبي صلّى الله عليه وسلم قد استشف بفراسة النبوة أو بوحي من الله تعالى هذا الذي قد حدث فيما بعد، فراح يؤكد التوصيات والأوامر، وكأنه في ذلك يجري مع أصحابه مناورة حية مع عدوّ لهم هو النفس وأهواؤها وما تنطوي عليه من طمع في المال والغنائم، والمناورة مهما كانت نتيجتها، تفيد فائدة عظيمة.. وربما كانت النتيجة السلبية أدعى للاستفادة من النتيجة الإيجابية.

سادسا: أبو دجانة، الذي تناول السيف من يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحقه، أخذه وراح يتبختر

<<  <   >  >>