بين الصفوف، فما أنكر عليه رسول الله، وإنما قال:«إن هذه مشية يكرهها الله إلا في مثل هذا الموضع!» . وهذا يدل على أن كل مظاهر الكبر المحرمة في الأحوال العامة، تزول حرمتها في حالات الحرب. فمن مظاهر الكبر المحرمة أن يسير المسلم في الأرض مرحا متبخترا، ولكن ذلك في ميدان القتال أمر حسن وليس بمكروه. ومن مظاهر الكبر المحرمة تزيين البيوت أو الأواني والأقداح بالذهب أو الفضة. غير أن تزيين آلات الحرب وأسلحتها بالفضة غير ممنوع. فمظهر الكبر هنا إنما هو في حقيقته افتخار بعزة الإسلام على أعدائه. ثم هو معنى من معاني الحرب النفسية التي ينبغي أن لا تفوت المسلمين أهميتها.
سابعا: إذا تأملنا مدة الحرب التي استمرت بين المسلمين وأعدائهم في هذه الغزوة وجدناها تنقسم إلى شطرين:
الشطر الأول: وفيه التزم المسلمون أماكنهم وأوامرهم التي كانوا قد تلقوها من قائدهم عليه الصلاة والسلام، فما الذي كان من ثمرة ذلك؟ لقد سارع النصر إلى المسلمين، وسارعت الهزيمة إلى صفوف المشركين، وما هو إلا أن اكتسح الرعب أفئدة الآلاف الثلاثة فانحسروا عن أماكنهم وأخذوا يولون الأدبار، وهذا الشطر هو الذي علقت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران ٣/ ١٥٢] .
الشطر الثاني: وفيه أخذ المسلمون ينطلقون خلف المشركين ليجهزوا على من يدركونه منهم، وليأخذوا الغنائم والأسلاب، وحينئذ نظر الرماة من فوق الجبل الذي كانوا يتمركزون فيه، إلى إخوانهم وهم يضعون السيوف في أعدائهم اللائذين بالفرار ويعودون بالأموال والغنائم، فرغب بعضهم أن يشتركوا معهم في الغنيمة، وخيلت إليهم هذه الرغبة أنّ الفترة الزمنية للأوامر التي تلقوها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد انتهت، فهم في حلّ منها وهم في غنى عن انتظار إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لهم بمغادرة أماكنهم وهو اجتهاد خالفهم فيه بعض زملائهم وفي مقدمتهم أميرهم عبد الله بن جبير، ولكنّ أصحاب هذا الاجتهاد نزلوا وانطلقوا يشاركون في أخذ الغنائم. فما الذي كان من نتيجة ذلك؟
لقد كان أن انقلب الرعب الذي داهم أفئدة المشركين إلى استبسال جديد! .. وكان أن تفتحت أسباب الحيلة والمكر لدى خالد بن الوليد الذي كان يولي هاربا، فنظر حوله متأملا، فوجد الجبل المحصّن قد خلا من حماته وحراسه، فلمعت الفكرة العسكرية في رأسه، وما هو إلا أن استدار إلى الجبل مع من معه من المشركين، فقتلوا من بقي ممن لم ينزل وأوجعوا المسلمين رميا بالسهام من خلفهم.. وجاء الرعب هذه المرة ليغزو أفئدة المسلمين كما رأينا. وهذا الشطر من المعركة هو الذي علقت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ،