للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فكسر الله أعداءه في جزيرة العرب وخارجها، لم يسعَ أبو بكر - رضي الله عنه - إلى الخلافة، بل الخلافة سعت إليه، لأنه - رضي الله عنه - كان أزْهَدَ الناس، وأكثرهم تواضعاً: في أخلاقه، ولباسه، ومطعمه، ومشربه، وتأكد ذلك بعد توليه الخلافة، إذ كان لبسه في خلافته الشملة، قدمَ إليه زعماء العرب وأشرافهم، وملوك اليمن وعليهم الْحُلَل، وبرود الْوَشْي المثقل بالذهب، والتيجان، فلما شاهدوا ما عليه من اللباس والزهد والتواضع والنسك، وما هو عليه من الوقار والهيبة ذهبوا مَذهبه، ونزعوا ما كان عليهم، وكان ممن وفد عليه من ملوك اليمن ذو الكلاع ملك حمير، ومعه ألف عبد دون من كان معه من عشيرته، وعليه التاج والحُلَل، فلما شاهد من أبي بكر - رضي الله عنه - ذلك الزهد والتواضع ألقى ما كان عليه وَتَزَيَّا بِزِيِّ أبي بكر، حتى إنه رؤي يوماً في سوق من أسواق المدينة على كتفيه جلد شاة، ففزعت عشيرته لذلك وقالوا له: "قد فضحتنا بين المهاجرين والأنصار، قال: أفأردتم مني أن أكون ملكاً جباراً في الجاهلية، جباراً في الإسلام، لا تكون طاعة الرب إلا بالتواضع لله والزهد في هذه الدنيا" (١)، وتواضعت الملوك ومَنْ ورد عليه من الوفود بعد التكبر، وتذللوا بعد التجبر.

[أبرز الأحداث في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -]

لم تنطفئ العداوة للإسلام، من اليهود والذين أشركوا، حتى في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الله - عز وجل - مكن للإسلام في جزيرة العرب، وأذاع صيته في أنحاء من الأرض، فما سمع أناس بوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا واشرأبت أعناقهم، وجاشت صدورهم بما فيها من الرغبات، وكان أول من برز مظهرا رغبة شخصية أبداها: الحباب بن المنذر - رضي الله عنه - في طلب الخلافة، حين قال في سقيفة بني ساعده: "أنا جُذيلها المحكك، وعُذيقها المرجَّب، إن شئتم والله رددناها جذعة" (٢)، ولكن الله - عز وجل - أراد خلاف ذلك، فكان أفضل الأمة بعد نبيها الأَولَى والأحق عند الله ورسوله والمؤمنين، وما كاد يستقر الأمر في يد أبي بكر - رضي الله عنه - حتى أطلَّت الفتنة برأسها من خلال من زعم أن الزكاة لا تؤدى إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يستحق جمعها أحد بعده، وكانت مهمة الفتح


(١) مروج الذهب ١/ ٢٨٩.
(٢) مصنف ابن أبي شيبة ٨/ ٥٧١.

<<  <   >  >>