للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فكيف يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة التي هي عمود الدين, والتي جاء من الترغيب في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يقوم بها ويبادر إلى فعلها. وجاء من الوعيد على تركها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها؟ فتركها مع قيام هذا المقتضى لا يبقي إيمانًا مع التارك.

فإن قال قائل: ألا يحتمل أن يراد بالكفر في تارك الصلاة كفر النعمة لا كفر الملة؟ أو أن المراد به كفر دون الكفر الأكبر؟ فيكون كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اثنتان بالناس هما بهم كفر: الطعن في النسب, النياحة على الميت". وقوله: "سباب المسلم فسوق, وقتاله كفر" ونحو ذلك.

قلنا: هذا الاحتمال والتنظير له لا يصح لوجوه:

الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الصلاة حدًا فاصلًا بين الكفر والإيمان, وبين المؤمنين والكفار. والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره, فالمحدودان متغايران لا يدخل أحدهما في الآخر.

الثاني: أن الصلاة ركن من أركان الإسلام, فوصف تاركها بالكفر يقتضي أنه الكفر المخرج من الإسلام؛ لأنه هدم ركنًا من أركان الإسلام, بخلاف إطلاق الكفر على من فعل فعلًا من أفعال الكفر.

الثالث: أن هناك نصوصًا أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفرًا مخرجًا من الملة؛ فيجب حمل الكفر على ما دلت عليه لتتلاءم النصوص وتتفق.

الرابع: أن التعبير بالكفر مختلف.

ففي ترك الصلاة قال: "بين الرجل وبين الشرك والكفر" فعبر بـ "أل" الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر بخلاف كلمة "كفر" منكرًا أو كلمة "كفر" بلفظ الفعل, فإنه دال على أن هذا من الكفر، أو أنه كفر في هذه الفعلة وليس هو الكفر المطلق المخرج عن الإسلام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص٧٠ طبعة السنة المحمدية) على قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اثنتان في الناس هما بهم كفر".

قال: "فقوله: "هما بهم كفر" أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس, فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما قائمتان بالناس, لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرًا الكفر المطلق, حتى تقوم به حقيقة الكفر. كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنًا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته. وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة" وبين كفر منكر في الإثبات انتهى كلامه.

فإذا تبين أن تارك الصلاة بلا عذر كافر كفرًا مخرجًا من الملة بمقتضى هذه الأدلة, كان الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد ابن حنبل وهو أحد قولي الشافعي كما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَات} [مريم: من الآية ٥٩]. وذكر ابن القيم في "كتاب الصلاة" أنه أحد الوجهين في مذهب الشافعي, وأن الطحاوى نقله عن الشافعي نفسه.

وعلى هذا القول جمهور الصحابة, بل حكى غير واحد إجماعهم عليه.

قال عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة". رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرطهما (١).


(١) رواه الترمذي، كتاب الأيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، (٢٦٢٢) والحاكم (١/ ٧).

<<  <   >  >>