للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: "هل تسمع النداء"؟

قال: نعم.

قال: "لا أجد لك رخصة" (١).

ما أعظم صلاة الجماعة! إنه أعمى، وداره بعيدة، ولا قائد له، لكن يجب عليه أن يصلي في المسجد ما دام أنه يسمع النداء. نعم داره بعيدة، وله عذر، فكيف بمن داره قريبة، وهو مبصر، وصوت المؤذن يخترق أجواء بيته؟؟ ورحم الله الإمام ابن خزيمة على تبويبه لهذا الحديث بقوله: (باب أمر العميان بشهود صلاة الجماعة وإن كانت منازلهم نائية عن المسجد لا يطاوعهم قائدهم بإتيانهم إياهم المساجد. والدليل على أن شهود الجماعة فريضة لا فضيلة، إذ غير جائز أن يقال: "لا رخصة في ترك الفضيلة") (٢).

٤ - العذر الرابع: وجود شجر ونخل بينه وبين المسجد. وقد دل علي ذلك ما رواه ابن أم مكتوم -أيضًا- رضي الله عنه؛ أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتى المسجد، فرأى في القوم رقة فقال: "إني لأهُمُّ أن أجعل للناس إمامًا، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه".

فقال ابن أم مكتوم -رضي الله عنه-: يا رسول الله! إن بيني وبين المسجد نخلًا وشجرًا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؛ قال: "أتسمع الإقامة؟ " قال: نعم، قال: "فأتها". (٣).

٥ - العذر الخامس: وجود الهوام والسباع في المدينة. وقد دل على ذلك ما رواه ابن أم مكتوم أيضًا -رضي الله عنه-، قال: يا رسول الله! إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تسمع حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح. فحيّ هلا" (٤) أي: أقبل وأجب.

٦ - العذر السادس: كبر سنه ورق عظمه. وقد دل عليه ما ورد عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: أقبل ابن أم مكتوم -رضي الله عنه-، وهو أعمى، وهو الذي نزل فيه: {عَبَس وَتَوَلى (١) أن جَآءَهُ الأعمَى} وكان رجلًا من قريش - إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال له: يا رسول الله! بأبي وأمي، أنا كما تراني، قد دَبَرَتْ سني، ورقّ عظمي، وذهب بصري، ولي قائد لا يلايمني قيادتي إياي، فهل تجد لي من رخصة أصلي في بيتي الصلوات؟ قال: "هل تسمع المؤذن من البيت الذي أنت فيه"؟ قال: نعم. يا رسول الله! قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما أجد لك من رخصة". ولو يعلم هذا المتخلف عن الصلاة في الجماعة ما لهذا الماشي إليها لأتاها ولو حبوا على يديه ورجليه" (٥).

إن جميع ما تقدم دليل واضح وبرهان قاطع على أن حضور الجماعة في المساجد واجب، وأنه لا رخصة في التخلف عنها إلا من عذر يمنع الحضور، ولو كان التخلف سائغًا أو الحضور ندبًا لكان أولى من


(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٢٥٧)، وقال عنه النووي: (رواه أبو داود بإسناد صحيح أو حسن)، [شرح المهذب ٤/ ١٩١].
وقوله: (لا يلايمني) أصله: يلائمني بالهمز أي: يوافقني ثم خفف الهمز فصار ياء، وقد جاء في رواية بالواو [النهاية لابن الأثير ٤/ ٢٧٨].
(٢) صحيح ابن خزيمة (٢/ ٣٦٨).
(٣) أخرجه أحمد (٢٤/ ٢٤٥). قال في بلوغ الأماني (٥/ ١٧٨): (وأخرجه ابن خزيمة (١٤٧٩)، والحاكم (١/ ٢٤٧)، وصحح إسناده وأقره الذهبي)، وله شاهد من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه وقد تقدم في أول الكلام.
(٤) أخرجه أبو داود (٢/ ٢٥٧)، والحاكم (١/ ٢٤٧)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(٥) أخرجه الطبراني في الكبير (٨/ ٢٦٦)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (١/ ٢٤٧).

<<  <   >  >>