[تأويلات العلماء لمعنى الحديثين اللذين استدل بهما المصنف على قرب قيام الساعة]
من الأصول الثابتة عندنا أننا نقول: إننا -كسلفيين- نعمل بكتاب الله وسنة رسوله على فهم سلف الأمة، وجميع الناس يقولون: إنهم يعملون بكتاب الله وسنة رسوله، فنقول: الفرق بيننا وبينكم أننا نعمل بالنصوص من خلال فهم سلفنا لهذه النصوص، وسلفنا لم يفهموا هذين النصين كما فهمهما الأخ أمين، بل إن السلف أولوا الأحاديث التي ظاهرها يدل على تحديد حساب زمني لقيام الساعة أو قرب الأشراط أو حدوثها، ولم يستنبطوا من هذه الأدلة مفهوم العدد الحسابي، وإنما استنبطوا عدة مفهومات، وهي: أن مدة هذه الأمة إلى مدة من تقدم من الأمم مثل ما بين صلاة العصر وغروب الشمس، ولا يدري أحد عمر الأمم السابقة كلها، وقد علمنا من خلال كتب أهل الكتاب أعمار بعض الأمم وليس كلها.
فقال في الحديث: (مثل ما بين صلاة العصر وغروب الشمس إلى بقية النهار)، أي: أن ما بقي من الدنيا شيء يسير بالنسبة لما مضى؛ لأن ما بقي كمثل ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، ولا شك أن هذه الحقبة الزمنية بالنسبة لبقية النهار قليلة نسبياً، ولكن مقدار القلة والكثرة لا يعلمه إلا الله.
التأويل الثاني لهذه الأحاديث عند أهل العلم: الاستحقاق بعمل البعض أجر الكل، وهذا بين في هذه الأحاديث، فالله تبارك وتعالى ضاعف الثواب لهذه الأمة ما لم يضاعفه لغيرها من الأمم، ووقت العمل من العصر إلى غروب الشمس، ولو استأجرت رجلاً يعمل لك في النهار فتوقف عن العمل عند العصر فلك أن تحتج عليه بأن العمل والشرط الذي بينكما لم يتم؛ لأن إطلاق لفظ النهار يعني أن آخره غروب الشمس، وليس المراد أن العمل خاص بهذا الوقت.
التأويل الثالث: من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب استحق أجر من أدرك الصلاة من أولها.
التأويل الرابع: أن هذه الأحاديث إنما هي لضرب الأمثال، يعني: أراد الله تبارك وتعالى وأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يضربا لنا مثلاً يقرب المفهوم، ولذلك كثر ضرب الأمثال في الكتاب والسنة، ضرب الأمثال يكون للعظة والعبرة والاتعاظ والتخويف والترغيب والترهيب وتقريب المفهوم، وفي بعض الأحيان قد لا تدرك المقصود في مسألة من المسائل إلا بضرب مثال يوضح المقال، ولذلك العرب يقولون: بالمثال يتضح المقال.
فهذه الأحاديث إنما هي لضرب الأمثال التي تقرب المفهوم والمراد، وليست مرادة لحقيقتها، يعني: ليس هذا التحديد من الصبح إلى الظهر، ثم من الظهر إلى العصر، ثم من العصر إلى المغرب مقصوداً لذاته، وليس فيه تحديد الوقت، بقدر ما هو ضرب مثال فقط لتقريب المفهوم.
ومعلوم قطعاً عند أهل العلم جميعاً أن الأحكام لا تؤخذ من ضرب الأمثال، ولا يلزم من التمثيل والتشبيه التسوية من كل وجه.
التأويل الخامس: أن المراد كثرة العمل وقلته، لا طول الوقت وقصره، وإنما كثرة العمل، فإن الشخص قد يعمل في الوقت القليل ما لا يعمله غيره في الوقت الكثير، وكذلك هذه الأمة عملت من العصر إلى المغرب أكثر مما عملته اليهود من الصبح إلى الظهر، والنصارى من الظهر إلى العصر.
التأويل السادس: أن المراد الإيمان بما أمرهم الله به، فإن الله تبارك وتعالى لما بعث موسى أمر بني إسرائيل أن يؤمنوا به وأن يتبعوه، فإذا ما جاء عيسى وجب عليهم أن يتخلوا عن شريعة موسى ويتبعوا شريعة عيسى ويؤمنوا به عليه السلام، فلما جاء عيسى عليه السلام كفر به اليهود ولم يؤمنوا به، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (حتى إذا انتصف النهار عجزوا -أي: لم يؤمنوا بعيسى- وعمل النصارى)، حتى إذا جاء محمد عليه الصلاة والسلام وقد أمروا جميعاً أن يؤمنوا به عجزوا وكفروا به وردوا دعوته وجحدوها.
ولذلك قال أهل العلم: معنى هذه الأحاديث: هو الإيمان بما أمرهم الله به، فكفر اليهود بعيسى ومحمد، وكفر النصارى بمحمد، وآمن المسلمون بمحمد وعيسى وموسى، فلا شك أن الذي يؤمن بجميع الأنبياء يستحق جميع الأجر، بخلاف من كفر بنبي أو باثنين أو أكثر؛ فإن الأصل الأصيل في الإيمان بالأنبياء أن من آمن بني واحد وكفر بجميع الأنبياء لا شك أنه كافر بجميعهم، بما فيهم ذلك النبي الذي ادعى أنه قد آمن به، فلو أن واحداً من أمة محمد الآن قال: أنا أكفر بعيسى وموسى، ولكن أؤمن بمحمد فإننا نقول له: إنك قد كفرت أولاً بمحمد؛ لأنه هو الذي أمرك أن تؤمن بجميع الأنبياء، فأنت قد رددت أمره وخالفته.
التأويل السابع: شدة اقتراب الساعة، يعني: هذه الأحاديث لا تدل على قرب الساعة فقط، وإنما على شدة اقترابها، ولذلك عبر الله تبارك وتعالى عنها بلفظ الماضي فقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:١] تعبيراً عن شدة قربها، فقال: ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ))، وكذلك هذه الأحاديث تدل على قرب الساعة.
التأويل الثامن: تحديد عمر الأمة حسابياً، وأول من ابتدع القول بالحساب في عمر الأمم هو إمام المفسرين وسيد المؤرخين ابن جرير الطبري عليه رحمة الله، وتبعه السهيلي، ثم لما ثبت بطلان ما ذهب إليه ابن جرير الطبري أراد