[مقتطفات من حكمة الختان وفوائده لابن القيم]
الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتاب (تحفة الودود بأحكام المولود) ذكر تحت باب الختان أربعة عشر فصلاً، سأذكر لك مقتطفات من فصل بعنوان: (حكمة الختان وفوائده).
قال الإمام: الختان من محاسن الشرائع التي شرعها الله تبارك وتعالى لعباده، وكمّل بها محاسنهم الظاهرة والباطنة، فهو مكمل للفطرة التي فطرهم عليها؛ ولهذا كان من تمام الحنيفبة ملة إبراهيم، وأصل مشروعية الختان لتكميل الحنيفية، فإن الله عز وجل حينما عاهد إبراهيم وعده أن يجعله للناس إماماً، ووعده أن يكون أباً لشعوب كثيرة، وأن يكون الأنبياء والملوك من صلبه، وأن يكثر نسله، وأخبره أنه جاعل بينه وبين نسله علامة العهد أن يختنوا كل مولود منهم، ويكون عهدي هذا ميسماً في أجسادهم -أي: علامة وأمارة- فالختان علم للدخول في ملة إبراهيم، وهذا موافق لتأويل من تأول قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:١٣٨]: أنها الختان.
فالختان للحنفاء بمنزلة الصبغ والتعميد لعبّاد الصليب، فهم يطهرون أولادهم بزعمهم حين يصبغونهم في ماء معمودية ويقولون: الآن صار نصرانياً، فشرع الله سبحانه وتعالى للحنفاء صبغة الحنيفية، وجعل ميسمها الختان فقال: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:١٣٨] فجعل الله سبحانه الختان علماً وأمارة لمن يضاف إليه وإلى دينه وملته، وينسب إليه بنسبة العبودية والحنيفية، حتى إذا جُهلت حال إنسان في دينه عُرف بسمة الختان ودينه، وكانت العرب تدعى بأمة الختان؛ ولهذا جاء في حديث هرقل الذي أخرجه البخاري في صحيحه قال: إني أجد ملك الختان قد ظهر، أو مُلك الختان قد ظهر على روايتين، فقال له أصحابه: لا يهمنك.
هذا فإنما تختتن اليهود فاقتلهم، فبينما هم على ذلك وإذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بكتابه -أي: إلى هرقل عظيم الروم- فأمر به أن يُكشف ويُنظر: هل هو مختون أم لا؟ فوجد مختوناً، فلما أخبره أن العرب تختتن قال: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.
ولما كانت وقعة أجنادين بين المسلمين والروم جعل هشام بن العاص يقول: يا معشر المسلمين! إن هؤلاء القلف -أي: الذين لم يختنوا وهم الروم- لا صبر لهم على السيف: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:١٤].
ليس هناك شعوب أجبن من شعوب اليهود والنصارى، تصور أن الواحد منهم يكون مدججاً بالسلاح وبالآربيجي ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه، وقد حدثني أخ كريم من الذين ذهبوا إلى أفغانستان أراد أن يتسلق سوراً لجيش سوفيتي فقال له إخوانه: لا تذهب.
قال: لا بد أني فاعل.
قالوا: اذهب وقلوبنا معك.
قال: فبمجرد أن قفزت على السور وأتيت على خيام معسكر العدو السوفيتي قلت: بخ.
فترك الجميع أسلحتهم وخرجوا من الخيام رافعين الأيدي، فسقتهم أمام الجميع وكانوا (٣١٧) جندياً إلى أرض أفغانستان، (٣١٧) جندي بـ (بخ)! فهم يعرفون أنه لا شيء بعد القتل سوى النار، فهم من غير عقيدة، وهناك أناس يذهبون من هنا لأجل الشهادة، تصور أن واحداً يذهب من أجل أن يموت من ماذا يخاف وقد أتى من أجل الموت؟ ولذلك المسلم له هدف، وهذه سنن، والشهادة رزق من الله عز وجل، وينبغي الإيمان والصبر والتسليم بذلك، فمن الممكن أن عدم الشهادة خير لك، فأنت لا تدري أين الخير؟ فقد تكون الحياة خير لك؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان في دعائه يقول: (اللهم أحينا إذا كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا).
والمقصود: أن صبغة الله هي الحنيفية التي صبغت القلوب بمعرفته ومحبته والإخلاص له وعبادته وحده لا شريك له، وصبغت الأبدان بخصال الفطرة من الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، والاستنجاء، فظهرت فطرة الله على قلوب الحنفاء وأبدانهم في وقت واحد.
قال محمد بن جرير قي قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة:١٣٨] يعني بالصبغة: صبغة الإسلام، وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تنصّر أطفالها جعلتهم في أبوالهم، وتزعم أن ذلك مما يقدس بمنزلة الختان لأهل الإسلام -لا بأس! فالأصل فيهم النجاسة، أما نحن فالأصل فينا الطهارة- وأنه صبغة لهم في النصرانية، فقال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم حينما قال اليهود والنصارى: ((كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)): {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:١٣٥] إلى قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:١٣٨].
قال قتادة: إن اليهود تصبغ أبناءها يهوداً، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى، وإن صبغة الله الإسلام فلا صبغة