للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[صور الدفاع عن موسى عليه الصلاة والسلام في لطمه ملك الموت]

ثم الدفاع عن موسى بعد ذلك يأتي في صور: أولها: أن الله تعالى أرسل ملك الموت إلى موسى رسالة ابتلاء واختبار، لينظر ماذا يصنع موسى، والله تبارك وتعالى عالم بما يصنع موسى، لكنها على أية حال رسالة ابتلاء واختبار، والله تبارك وتعالى لما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده لم يكن يريد هذا الأمر؛ لأن إبراهيم عليه السلام لما عزم على ذبح ولده وتله للجبين، أي: ألقاه على جبينه، وأراد أن يذبحه، فجاءه الله عز وجل بالذبح العظيم.

إذاً: الله عز وجل أراد بهذا ابتلاء إبراهيم واختبار إبراهيم ليظهر إيمان إبراهيم، وغير ذلك.

وكذلك الملائكة تتصور في غير صورتها، وإذا تصورت في غير صورتها لا يعرفها أحد حتى الأنبياء والمرسلون، ألا ترون أن الملائكة أتوا إلى إبراهيم عليه السلام فأوجس منهم خيفة، فقالوا: لا تخف.

ثم إنه عد هؤلاء أضيافاً، وجاءهم بعجل حنيذ وقربه إليهم وقال: ألا تأكلون؟ قالوا: إنا رسل ربك، فلو رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ملائكة الله على الهيئة والوصف الذي خلقهم الله عز وجل عليه لبهت، ولكنه ولأول مرة يرى ملائكة قد تصوروا في صورة آدميين، وأوجس منهم خيفة؛ لأنهم أضياف لا يعرفهم، فقام بواجب الضيافة إليهم فذبح العجل وقربه إليهم، فاعتذروا لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون.

والنبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه جبريل فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ثم سأله عن الإيمان وعن الإسلام وعن الإحسان وأشراط الساعة فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام على أسئلته، ثم أمر الصحابة أن يحضروه مرة أخرى، فذهبوا ليأتوا به، والمدينة صغيرة يرى فيها كل الناس فضلاً عن الغريب، فلما ذهبوا ليلتمسوه لم يجدوا أحداً، فقالوا: ما وجدناه يا رسول الله؟ قال: إنه جبريل، في وقت الأسئلة لم يفطن النبي عليه الصلاة والسلام إلى أنه جبريل، لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وهي رؤية النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة للملائكة، كما أن هذه القدرة -وهي التصور في صورة غير الصورة الحقيقة التي خلقهم الله عز وجل عليها- كانت كذلك للجن والشياطين، فإنهم يتصورون في صورة طير وحيوان ودواب وإنسان.

فإن النبي عليه الصلاة والسلام كلف أبا هريرة رضي الله عنه بحراسة بيت المال، فأتاه شيطان في صورة إنسان يشكو فاقة وفقراً وعيالاً، فقال: أعطني فإني صاحب عيال وذو فاقة، ثم أتاه في الليلة الثانية ففعل مثلما فعل في الأولى، ثم أتاه في الليلة الثالثة ففعل مثلما فعل في الليلتين السابقتين، وفي كل ليلة يقول النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (ماذا فعل صاحبك؟ قال: يا رسول الله! أتاني رجل فسألني حاجة وقال إنه ذو فقر وذو عيال) وفي الليلة الثالثة لما امتنع أبو هريرة عن إعطاء هذا الرجل شيئاً، قال: ألا أعلمك آية في كتاب الله لو قلتها من الصباح لا يزال عليك من الله حافظ حتى المساء، ولو قلتها في المساء لا يزال عليك من الله حافظ حتى الصباح.

فقال: بلى.

قال: اقرأ آية الكرسي حين تصبح وحين تمسي، فلما قال أبو هريرة للنبي عليه الصلاة والسلام: إنه قال لي كيت وكيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب).

فقوله: (صدقك) هذا كلام حق لا مصلحة؛ لأن يكذب فيه الشيطان، ولكن الأصل فيه أنه كذاب، بل كذوب، فتبين أن الملائكة إنما منحهم الله تبارك وتعالى القدرة على أن يتشكلوا في غير الصورة التي خلقهم عليها وأنهم أجساد نورانية لهم أجنحة.

هذا الكلام ستأتي فائدته فيما بعد بإذن الله تعالى.

وبعض الشرائع تتفق مع بعضها في بعض الأحكام، فهذا جبريل عليه السلام نزل إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وصلى به الخمس الفرائض في أول الوقت مرة وفي آخرها مرة، وقال: (يا محمد! هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك).

إذاً: الأنبياء كانوا مكلفين بفرض الصلاة في مواقيت معينة ومحددة، وتبين بهذا النص أن بعض الشرائع تتفق مع بعضها، ولذلك لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن النظر في كتب بني إسرائيل قال: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، قال العلماء: ما وافق من شريعة من قبلنا شريعتنا يعمل به استئناساً، وإذا خالف شرع من قبلنا شرعنا لا نعمل به، وإذا لم يخالف ولم يوافق فنحن مخيرون بين العمل به وتركه.

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من نظر في دار أخيه بغير إذنه ففقأ عينه فلا حرج عليه ولا قود).

ومعنى فلا حرج عليه، أي: لا يقاد، فلا يطبق هنا العين بالعين والسن بالسن، لأنه انتهك حرمة البيت، فكان جزاؤه من جنس عمله، ولأن صاحب الدار دافع عن نفسه، وعن حريمه، وعن أهل بيته.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان لأجل النظر)، فإذا صوبت عينيك في البيت ثم طرقت الباب فما قيمة هذا الطرق؟! والشرع إنما أوجب علينا الاستئذان وطرق الباب وصرف البصر إلى الناحية الأخرى حتى لا نقع على محارم أصحاب البيت فنستاء من ذلك إن كنا

<<  <  ج: ص:  >  >>