بتأميلها فملكت العبد ملكاً أشد من ملك، فإذا ملكت النفس العبد كان مملوكها وأسيرها وكانت بالهوى أميرة فاستهواه الشيطان حينئذ بالغواية والإضلال واستحوذ عليه بمعاني المشاركة في الأولاد والأموال، فشغله بذلك عن الله سبحانه وتعالى وأنساه ذكر الله عزّ وجلّ، وهذا هو الاقتران الذي ذمه الله تعالى في قوله:(وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَريناً فَسَاءَ قَريناً) النساء: ٣٨ وهو فوق النزغ الهمز والخاطر بعد الهمة وهو خطور العدوّ على القلب بالوسوسة يزين الهمة ويملي للعبد ويرجيه ويفسح له في أمله ويمنيه بالتوبة حتى تهون عليه المصية ويعده بعدها بالمغفرة حتى يجرئه على الخطيئة وهذا هو الوعد بالغرور وبعده الهلاك والثبور، كما قال يعدهم أي التوبة ويمنيهم المغفرة وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، وهذا كله تصديق ظن العدوّ بالعبد واتباع العبد له بالهوى عن مقام البعد وكشف لعلم الله تعالى بإظهار الحكم وإنفاذ المشيئة وهو الابتلاء بالأسباب فصار العدوّ سبباً لقوله تعالى:(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْليسُ ظَنَّهُ فاتَّبعُوهُ إلاَّ فَريقاً مَنَ الْمُؤْمنينَ) سبأ: ٢٠، ثم أحكم ذلك بسابق علمه فقال (وما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطان) سبأ: ٢١، يعني بحوله وقوّته وبقهره ومشيئته إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك أي لنرى وقيل لنعلم العلم الذي يجازي عليه بالثواب والعقاب وقيل: لنختبر ونكشف وقيل: لنعلم المؤمنين ذلك فيستبين لهم ويعلم من عمل تلك الأعمال التي ظهرت منه فتوقع عليه بذلك الحجة ويتبين له كذبه كما قال: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ) العنكبوت: ٣، فعلى هذه المعاني مجاز كل ما في كتاب الله عزّ وجلّ من قوله لنعلم وحتى نعلم إذ كان علمه تعالى قد سبق المعلومات وإذا كانت الأشياء عن علمه بعلمه جاريات فجعل تسليط العدوّ بسلطانه كشفاً وإظهاراً لما أخفاه من سابق علمه كما جعل أفعال العباد الظاهر كشفاً وإظهاراً لإرادته الباطنة، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبق العلم وجفّ القلم وقضى القضاء وتم القدر بالسعادة من الله تعالى لأهل طاعته وبالشقاء من الله تعالى لأهل معصيته.
[ذكر تقسيم الخواطر وتفصيل أسمائها]
فأما تسمية جملة الخواطر فما وقع في القلب من علم الخبر فهو إلهام وما وقع من علم الشر فهو وسواس وما وقع في القلب من المخاوف فهو الحساس وما كان من تقدير الخير وتأميله فهو نية وما كان من تدبيرالأمور المباحات وترجيها والطمع فيها فهو أمنية وأمل وما كان من تذكرة الآخرة والوعد والوعيد فهو تذكر وتفكير وما كان من معاينة الغيب بعين اليقين فهو مشاهدة وما كان من تحدث بمعاشها وتصريف أحوالها فهو هم وما كان من خواطر العادات ونوازع الشهوات فهو لمم، ويسمّى جميع ذلك خواطر لأنه خطور همة نفس أو خطور عدوّ بحسد أو خطرة ملك بهمس، ثم إن ترتيب الخواطر المنشأة من خزائن الغيب القادحة في القلب على ستة معانٍ، وهذه حدود الشيء المظهر ثلاثة منها معفوة وثلاثة منها مطالب بها، فأول ذلك الهمة وهو ما يبدو من وسوسة النفس بالشيء