بنواصي دواب الأرض، فقال: ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ثم أخبر عن عدله في ذلك وقيام حكمته، وإنه وإن كان آخذاً بنواصي العباد في الخير والشر والنفع والضرّ، فإن ذلك مستقيم في عدله، فقال: إن ربي على صراط مستقيم، وقال تعالى في فرض التوكل:(وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنيَن) المائدة: ٢٣، وقال تعالى في مثله:(إنْ كُنْتمْ آمَنْتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَْلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمينَ) يونس: ٨٤، وقال تعالى في فضله:(وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إبراهيم: ١٢، وقال تعالى:(إنَّ الله يُحبُّ الْمُتَوَكلِّينَ) آل عمران: ١٥٩.
ذكر إثبات الأسباب والأواسط لمعاني الحكمة ونفي أنها تحكم وتجعل لثبوت الحكم والقدرة:
اعلم أن الله عزّ وجلّ ذو قدرة وحكمة، فأظهر أشياء عن وصف القدرة، وأجرى أشياء عن معاني الحكمة، فلا يسقط المتوكّل ما أثبت من حكمته لأجل ما شهد هو من قدرته من قبل أن الله تعالى حكيم، فالحكمة صفته، ولا يثبت المتوكّل الأشياء حاكمة جاعلة نافعة ضارة، فيشرك في توحيده من قبل أن الله قادر والقدرة صفته، وأنه حاكم جاعل ضارّ نافع، لا شريك له في أسمائه، ولا ظهير له في أحكامه، كما قال عزّ وجلّ:(إن الحكم إلا لله) يوسف: ٤٠ وقوله: (وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أَحَداً) الكهف: ٢٦، وكما قال تعالى:(وَمَا لَهُمْ فيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ منهم منْ ظَهيرٍ) سبأ: ٢٢ الظهير المعين على الشيء، فالمتوكل مع مشاهدته قدرة الله على الأشياء وأنه منفرد بالتقدير والتدبير قائم بالملك والمملوك هو أيضاً عالم بوجوه الحكمة في التصريف والتقليب بإظهار الأسباب الأواسط لإظهار الأشخاص والأشباح لإيقاع الأحكام على المحكوم وعود الثواب والعقاب على المرسوم، من حيث كان المتوكل قائماً بأحكام الشريعة ملتزماً لمطالبات العلم مع تسليمه الحكم الأوّل لله، واعترافه أن كلاً بقدر الله إذ سمع الله تعالى يقول: لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون، وأن الله تعالى في جميع ما أظهر أخفى قدرته في حكمه فظهرت حكمته في الأشياء لعود الأحكام على المظهرين لها، وبطنت قدرته في الأشياء لرجوع الأمر كله إليه ولإتقان الصنعة الظاهرة لصنع الباطن.
فلذلك قال عزّ وجلّ:(صُنْعَ الله الَّذي أَتْقَنْ كُلَّ شَيء) النمل: ٨٨، أي صنعه الباطن أتقن صنعه الظاهر، ثم قال تعالى:(وَإلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ) هود: ١٢٣، من الظاهر والباطن فاعبده وتوكّل عليه في جميع ذلك، فللعارف المتوكّل من الصنع الباطن شهادة هو قائم بها، وله في الحكمة الظاهرة علم شرع وتسليم اسم ورسم هو عامل به، وهذا هو شهادة التوحيد في عبادة التفضيل، وهو مقام العلماء الربانيين، وكل مؤمن بالله متوكّل على اللَّه، ولكن توكّل كل عبد على قدر يقينه، فتوكّل الخصوص ما قدمناه من ذكر المشاهدة ومعاني الرضا، وتوكّل العموم ما عقبناه من الإيمان بالأقدار خيرها وشرها، وقد أخبر الله تعالى أنه هو الرزاق، كما هو الخالق، كما هو المحيي المميت، فقرن بين