اغتبط بمقامه واطمأن ورضي بحاله، أو كان مقامه على هوى أو لاختلاف أسباب الفتنة والدنيا، قال الله تعالى:(أَلَمْ تََكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فيهَا) النساء: ٩٧ في التفسير: إذا كنت في بلد يعمل فيه بالمعاصي فتحول منه إلى غيره، وقيل: إذا كان العبد في بلد من يعمل فيه بالمنكر والمعاصي أضعف أو أقل من أهل الدين والمعروف، ثم لم ينكر ذلك فقد وجب الخروج منه، ثم قال عزّ وجلّ في قوم من المستضعفين عذرهم وأرجى إلى العفو أمرهم:(وَالْمُستَضعَفينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلْدَانِ الَّذينَ يَقُولُون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) النساء: ٧٥ وقال تعالى في تمام وصفهم واستثنائهم من غيرهم: (ولاَ يَسْتَطيعُونَ حيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبيلاً)(فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) النساء٩٨ - ٩٩ ولا يصح الرضا إلا بالعصمة من جميع الهوى، وأوّل الرضا القناعة، وقال بعض أهل المعرفة: لا يكون العبد قانعاً حتى لو جاء إلى باب منزله جميع ما يرغب فيه أهل الدنيا من الاتساع والنعمة، فعرض عليه لم ينظر إلى ذلك ولم يفتح بابه قناعة منه بحاله، والعصمة حال الراضي عن الله عزّ وجلّ، وهي ظاهر الرحمة، والرحمة أول الرضا من الله تعالى، قال الله سبحانه وتعالى:(إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ مَارَحِمَ رَبِّي) يوسف: ٥٣ وقال تعالى: (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إلاّ منْ رَحِمَ) هود: ٤٣ فالعصمة من الله لعبده دليل على الرحمة منه، ثم تدخله في مقام المحبة وهي رحمة المحبوبين، ثم ترفعه إلى الرضا فتكون المحبة مقامه عن شهادة محبوب، ويكون الرضا حاله في جميع تصريف البقية والمطلوب، وهذا آخر كتاب الرضا.
[ذكر أحكام المحبة ووصف أهلها وهو المقام التاسع من مقامات اليقين]
المحبة من أعلى مقامات العارفين، وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين ومعها نهاية الفضل العظيم، قال الله جلت قدرته:(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُونَهُ) المائدة: ٥٤ ثم قال تعالى: (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتيهِ مَنْ يَشاءُ) الحديد: ٢١ وهذا الخبر متصل بالابتداء في المعنى لأنّ الله تعالى وصف المؤمنين المحبين بفضله عليهم، وما اعترض بينهما من الكلام فهو نعت المحبوبين، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما كان الله ليعذب حبيبه بالنار، وقال الله عزّ وجلّ مصداق قول نبيه عليه السلام، ردّاً على من ادعى محبته واحتجاجاً عليهم:(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذنُوبِكُمْ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) المائدة: ١٨ وقال زيد بن أسلم: إنّ الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول: اصنع ماشئت فقد غفرت لك، وروينا عن إسماعيل بن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ثم تلا: إنّ الله يحب التوّابين ويحب المتطهرين، وقد اشترط الله للمحبة غفران الذنوب بقوله تعالى:(يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) آل عمران: ٣١ فكل مؤمن بالله فهو محب لله، ولكن محبته على قدر إيمانه، وكشف مشاهدته وتجلي المحبوب له على وصف من أوصافه، دليل ذلك استجابتهم له