ولحسن ظنّهم به، ثم صبروا على توكّلهم لتمام حالهم، ويعلو بذلك فيه مقامهم: فالصبر أول مقام في التوكّل وهو عند مشاهدة القضاء بلاء، والشكر أعلى من ذلك هو شهود البلاء نعمة، والرضا فوق ذلك كلّه وهو أعلى التوكّل وهو مقام المحبين من المتوكّلين، قال الله عزّ وجلّ في وصف عموم المتوكلين:(وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) القصص: ٦٠، فمن اتّقى الله وعقل خطابه توكّل عليه فيما أصابه، فلم ييأس على ما فات ولم يفرح من الدنيا بما هو آت وهذا أوسط الزهد وأوّل التوكّل، وقال تعالى في وصف الخصوص:(وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الشورى: ٣٦ فأهل العقل عن الله والمتقون له هم المتوكلون عليه، وقد زهدهم فيما يفنى برغبته إياهم فيما يبقى حين فهموا الخطاب، إذ هم أولو الألباب وذلك أنه أضاف ما عنده إليه ووصفه بالبقاء ليرغبوا فيه، لأنهم قد توكّلوا عليه وأضاف ما عندهم إليهم ليزهدوا فيه، ووصفه بالفناء لأنهم قد زهدوا في نفوسهم، إذ قد باعوها منه، فكيف يتملكون ماعندها؟ والعبد وماله لسيده وهو تعالى قد اشتراها منهم لرغبتهم فيه، وعوّضهم منها ما يبقى لهم فقال تعالى:(مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ) النحل: ٩٦
ذكر بيان آخر من فضيلة المتوكّل
اعلم يقيناً أن الله تعالى لوجعل الخلائق كلّهم من أهل السموات والأرضين على علم أعلمهم به، وعقل أعقلهم عنه وحكمة أحكمهم عنده، ثم زاد كلّ واحد من الخلائق مثل عدد جميعهم وأضعافه علماً وحكمة وعقلاً، ثم كشف لهم العواقب وأطلعهم على السرائر وأعلمهم بواطن النَّعم، وعرّفهم دقائق العقوبات وأوقفهم على خفايا اللطف في الدنيا والآخرة، ثم قال لهم: دبّروا الملك بما أعطيتكم من العلوم والعقول عن مشاهدتكم عواقب الأمور، ثم أعانهم على ذلك وقواهم له، لما زاد تدبيرهم على ما يراه من تدبير الله تعالى من الخير والشر والنفع والضرّ جناح بعوضة، ولا نقص جناح بعوضة ولا أوجبت العقول المكاشفات ولا العلوم المشاهدات غير هذا التدبير، ولا قضت بغير هذا التقدير الذي يعاينه ويقلب فيه، ولكن لا يبصرون لأنه أجراه على ترتيب العقول وعلى معاني العرف والمعتاد من الأمور، بالأسباب المعروفة والأواسط المشهورة على معيار ما طبع العقول فيه وجبل العقول عليه، ثم غيّب مع ذلك العواقب وحجب السرائر وأخفى المثاوب، فغاب بعينها حسن التدبير وجميل التقدير فجهل أكثر الناس الحكم إلا المتوكلين وما يعقلها إلا العالمون، ويقال: أصغر ماخلق الله من الحيوان والموات البعوضة والخردلة، وفي كل واحدة منها ثلاثمائة وستون حكمة، ثم يتزايد الحكم في المخلوقات على قدر تفاوتها في العظم والمنافع ومزيد آخر من الهدى، والبيان لو تمنّى أهل النهي من أولي الألباب الذين كشف عن قلوبهم الحجاب نهاية أمانيهم، فكوّنت أمانيهم على ما تمنوا لكان رضاهم عن الله في