النفس أنفع للقلب من صيام سنة، وقيامها هذا كله خشية إيلاف العادات، فتنازع النفس إلى الألف فلا يمكنك ضبطها لغلبة الوصف، ثم حسن الصبر على ما أمر به، وحسن الصبر عمّا نهى عنه؛ فإن ذلك من أفضل الأعمال وله فضائل المزيد والكمال.
وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتقّ المحارم تكن من أعبد الناس، وفي لفظ آخر: تكن من أورع الناس، ومن أحسن ما سمعته من عظيم المثوبة في الصبر عن المعصية ما حدثونا في الإسرائيليات: أنّ رجلاً تزوّج امرأة من بلدة، وكان بينهما مسيرة شهر، فأرسل إلى غلام له من تلك البلدة ليحملها إليه فسار بها يوماً، فلما جنّه الليل أتاه الشيطان فقال له: إنّ بينك وبين زوجها مسيرة شهر فلو تمتعت بها ليالي هذا الشهر إلى أن تصل إلى زوجها، فإنها لا تكره ذلك وتثني عليك عند سيدك فتكون أحظى لك عنده، فقام الغلام يصلي فقال: يا رب، إنّ عدوك هذا جاءني فسوّل لي معصيتك، وإنه لا طاقة لي به في مدة شهر وأنا أستعيذك عليه يا رب فأعذني عليه، واكفني مؤونته، فلم تزل نفسه تراوده ليلته أجمع وهو يجاهدها حتى أسحر فشّد على دابة المرأة وحملها وسار بها، قال: فرحمه الله تعالى، فطوى له مسيرة شهر فما برق الفجر حتى أشرف على مدينة مولاه، قال: وشكر الله تعالى له هربه إليه من معصيته فنبأه، فكان نبيّاً من أنبياء بني إسرائيل، ثم إعداد العدة لما يستقبل إذا كان ذلك من مريديّ السعي للآخرة والشغل بالنفس والإقبال عليها دون الناس فقد وجب ذلك، والزهد في فضول الشهوات واجتناب كثير من الشبهات فقد افترض ذلك، وقلة الذكر للناس ولأمور الدنيا فقد حسن ذلك، ومنه غفلة وقسوة للقلب وكثرة الذكر لله تعالى والتذكير به وذكر آلائه ونعمائه وحسن الثناء عليه والمدح له، وقد كان بعض العلماء يقول: من جالسنا فليجتنب ذكر ثلاث خصال وليقض فيما يشاء: يجتنب ذكر الناس فإنهم داء، ويجتنب ذكر الدنيا فإنها قسوة، ويجتنب كثرة الطعام فإنها شره، وقال عالم آخر: من جالسنا فلا يذكر إلاّ الله وحده، فإن كان لا بدّ من ذكر غيره فليذكر الآخرة وليذكر الصالحين، وكان سهل رحمه الله تعالى ورضي عنه يقول: السنّة ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وأول السنة الزهد في الدنيا لأنهم كانوا زاهدين، وكذلك جاء الخبر في وصف الفرقة الناجية: من كان على ما أنا عليه وأصحابي فقد كانوا على هذه الأوصاف التي ذكرناها، فمن كان على ذلك فهو على السنّة فهذه فضائل السنّة وهو مزيد الإيمان وحسن اليقين.
[ذكر عري الإيمان وجمل الشريعة]
قال الله جلّ ثناؤه وصدقت أنباؤه:(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا)