هذا، فصار الحق غامضاً فكان خير الناس اليوم المتثبت بالورع، كما أخبر أنّ خيرهم يومئذ المسارع بالفضل ومما يدلك أنّ الإيمان هو التسليم، كما أنّ الإيمان هو التصديق، أنّ في قراءة بعض التابعين منهم جعفر بن محمد، وقد رويناه عن أبي جعفر ومحمد بن عليّ أنهما قرأا:(واجعلنا مسلمين لك) البقرة: ١٢٨ وقرأا أيضاً: (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) الزخرف: ٦٩ فلولا أنهما بمعنى واحد لم يجز أن يخالفوا المعنى في المقروء.
وكذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الأمر المتشابه الذي يشبه الحق من جهة ويشبه الباطل من جهة: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ولكن قولوا: آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم، هذا لأن الله سبحانه وتعالى أنزل التوراة؛ فهي حق، ثم أخبر أنهم قد حرّفوها فاحتمل أن يكون ما يخبرون به المؤمنين مما أنزل الله تعالى فلا يحلّ التكذيب به ولا اعتقاد نفيه، واحتمل ما يخبرون به المؤمنين أنهم حرّفوا فلا يحلّ قبوله ولا اعتقاد ثبوته، فأمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإيقاف ذلك والإيمان بما أنزل الله تعالى جملة، فإن كان ما أخبروهم حقّاً دخل فيه، وإن كان باطلاً لم يضرّه، فالمسلم هو الذي يسلم ما لم يظهر دليله في العقل لأجل القدرة والسنّة والنقل، كما أنّ المؤمن هو الذي يصدّق بما لم يظهر بمشاهدة العين الإيمان بالغيب، لأن العقل بصره القلب كالعين بصر الجسم، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع القلم عن المجنون حتى يعقل، كما قال الله تعالى:(لَيْسَ عَلَى الأَعمى حَرَجٌ) النور: ٦١، ثم ترك ما لا يعني مما قد كفي ومما لم يكل إليه من القول والفعل، لأن الدخول فيما لا يعني هو التكلّف المنهي عنه الذي أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ الأتقياء من أمته براء منه، وهو يشغل ويقطع عمّا يعني، وفيما يعني شغل عمّا لا يعني لكل فطن عاقل، وهو أصل الحكمة فيما أخبر به لقمان لما سئل: أنّى أوتي الحكمة؟ قال: بشيئين لا أتكلّف ما كفيت ولا أضيع ما كلّفت فهذا شيء لا يضرّ جهله ولا ينفع فعله، ولأنه شيء كتب عليه لم يكن له فيه فضل وإن سمع منه وظهر به، ولم يكن له فيه مزيد ولا لغيره نفع، ثم كفّ الأذى؛ فإن ذلك من الورع، وكان سهل رحمه الله تعالى يقول: كفّ الأذى كسب العقل واحتمال الأذى كسب العلم، والنصيحة للخلق والرحمة لهم كسب الإيمان من العمل في قطع ما قد اعتاد من عاجل حظوظ النفس مما يقطعه عن العمل لأجل الآخرة وأعمال النفس وإجهادها، وأن لا يكون لها معتاد من شهوة تعود على النفس منه منازعة، فإن العادة جند غالب لأجلها تعذرت التوبة ولغلبتها رجع العبد عن الاستقامة؛ وهي باب من أبواب الهوى، إلاّ فيما أمر به العبد أو ندب إليه، قال أبو سليمان الداراني: إن قدرت أنّ لا يكون لك وقت معتاد في الأكل تنازعك نفسك إليه فافعل، وقال: لأن أترك لقمة من عشائي أحبّ إليّ من قيام ليلة، أي لنقص النفس من المعتاد والتقلل أيضاً، وقال أيضاً، ترك شهوة من شهوات