للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصبر حال التقوى ورفع للمتقين في الإكرام درجات، فقال عزّ وعلا: (إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) يوسف: ٩٠ وقال تعالى: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ) الحجرات: ١٣، فأكرم وأتقى فوق أن يقال كرامكم المتقون لأن أكرم وأتقى يدل على تفاوت، فمن كان أتقى كان أكرم عند الله سبحانه وتعالى، ومن كان أصبر على ما يوجب التقوى كان أتقى، وأعلم أن الصبر سبب دخول الجنة وسبب النجاة من النار لأنه جاء في الخبر: خفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات فيحتاة المؤمن إلى الصبر على المكاره ليدخل الجنة ويحتاج إلى الصبر عن الشهوات لينجو من النار، فأما تفصيل التفضيل فعلى ثلاثة أوجه، أحدها: أن المقامات أعلى من الأحوال، وقد يكون الصبر والشكر حالين، وقد يكونان مقامين، فمن كان مقامه الصبر كان حاله الشكر عليه فهو أفضل لأنه صاحب مقام، ومن كان مقامه الشكر كان حاله الصبر عليه فحاله مزيد لمقامه فقد صار الصبر مزيداً للشاكر في مقامه، الوجه الثاني من التفضيل: المقربون أعلى من أصحاب اليمين فالصابرون من المقربين أفضل من الشاكرين من أصحاب اليمين والشاكرون من المقربين أفضل من الصابرين من أصحاب اليمين فإن قيل: فإن كان الشاكر والصابر من المقربين فيهما أفضل قيل: فقد قلنا إن اثنين لا يتفقان في مقام من كل وجه لانفراد الوجه بمعاني لطائف اللطيف بمثل ما انفردت الوجوه بلطيف الصنعة مع تشابه الصفات واستواء الأدوات، فأفضلهما حينئذ أعرفهما لأنه أحبهما إلى الله تعالى وأقربهما منه وأحسنهما يقيناً لأن اليقين أعزّ ما أنزل الله تعالى.

[وجه آخر من بيان التفضيل]

نقول: إن الصبر عمّا يوجب الشكر أفضل وإن الشكر على ما يوجب الصبر أفضل، فقد يختلف باختلاف الأحوال تفسيره أن الصبر عن حظ النفس وعن التنعّم والترفّه أفضل إن كان عبداً حاله النعمة فالصبر عن النعيم والغنى مقام في المعرفة وهو أفضل لأن فيه الزهد المجمع على تفضيله، ونقول إن الشكر على الفقر والبلاء والمصائب أفضل إن كان عبداً حاله الجهد والبلاء فالشكر عليه مقام له في المعرفة فهو حينئذ أفضل لأن فيه الرضا المتفق على فضله.

[نوع آخر من الاستدلال على فضل الصابر وتفضيل الصبر جملة]

الصابر العارف أفضل من الشاكر العارف لأن الصبر حال الفقر والشكر حال الغنى، فمن فضل الشكر على الصبر في المعنى فكأنه قد فضّل الغنى على الفقر، وليس هذا مذهب أحد من القدماء إنما هذه طريقة علماء الدنيا طرقوا لنفوسهم بذلك وطرقوا الخلق إلى نفوسهم من ذلك، فإن من فضّل الغنى على الفقر فقد فضل الرغبة على الزهد والعزّ على الذلّ والكبر على التواضع، وفي هذا تفضيل الراغبين والأغنياء على الزاهدين

<<  <  ج: ص:  >  >>