بالتكسب الأكل للشهوات والقيام بحظوظ النفس من الرفاهية نقص ذلك من توكله وأخرجه من حقيقته، فكان طريقاً من طرقات الدنيا إلاّ أنّه مباح، وإن قصد بتكسبه التكاثر والحرص للجمع والمنع كان عاصياً بكسبه مخالفاً لربّه، وهذا من أكبر طرق الهوى، ثم إن لم يتكسب وصبر على الجوع ورضي بالقلة والفقر، فإن رزقه يأتيه لا محالة لمجيء وقته، وإن كان قليلاً دون سعة، ولكنه يحتاج إلى فضل صبر، وحسن رضاً، وسكون نفس، وطمأنينة قلب، فإن وجد هذه المعاني فهذا هو التوكل، وكان فاضلاً في ترك التكسب بحسن يقينه وثقته برازقه وشغله بما هو أفضل وأنفع له في عاقبته، وإن تشتت همته، واضطربت نفسه، وتكره قضاء ربه، فأخرجه ذلك إلى الجزع والهلع والتبرم والشكوى، فالتكسب لهذا أفضل وهو منقوص بتركه، كذلك أيضاً من أكبر الشكوى من علّته وتسخط حكم ربّه وتبرم وضجر وسطاً على الناس، وساء خلقه بمرضه فإن الأفضل لهذا أن يتداوى وهو ناقص بتركه.
وروينا عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنّ من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق اللّّه، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إنّ رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كره كاره، إنّ الله بحلمه وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط.
[ذكر استواء شهادة المتوكل مع اختلاف ظهور الأسباب]
ويستوي عند الخصوص بعين يقينهم ما جاءهم بواسطة أيديهم، وأسباب كسبهم وما جاءهم بأيدي غيرهم وبغير كسبهم إذا كان المعطي عندهم واحداً والعطاء كله رزقاً إذ كانت الأيدي ظروف العطاء فيستوي وكأن الظرف يدك أو يد غيرك، وسواء كان الكسب كسبك أو كسب غيرك لك إذ جميعه رزقك، ولأنّ لكل شيء حكماً وفي كل شيء حكمة وبكل شيء نعمة، قال الله تعالى:(إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ)(الَّتي لَمْ يُخْلَقْ منِثْلُهَا في الِبْلاَدِ) الفجر: ٧ - ٨ فأضافها إليه في الخلق بعد أن بنوها بأيديهم وفرغوا منها، ومثل هذين أيضاً يستوي عندهم ما ظهر بيد القدرة لا خلق فيه ولا واسطة به، وما ظهر بأيديهم عن الحكمة وترتيب العرف، لأن القدرة أيضاً بمنزلة ظرف للعطاء ظهر العطاء بها، فهي كأيدي العباد من يد الإنسان نفسه أو يد غيره، إذ القدرة والحكمة خزانتان من خزائن الملكوت والملك، فهذه المعاني الثلاث أعني ما ظهر عن يدك وتكسبك، وما ظهر بيد غيرك، وعن كسبه لك، وما أظهرته القدرة عن غير عرف معتاد ولا واسطة مرت به، هذا كله عند الموقنين سواء، لا يترجح بعضه على بعض لرجحان إيمانهم وقوّة يقينهم ونفاذ