للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقلت له: يا أبا محمد يعني ابن عيينة قد أنعم عليه فشكر وابتلى فصبر وحبس النعمة كيف يكون زاهدًا؟ فضربني بيده وقال: اسكت، من لم تمنعه النعماء من الشكر ولا البلوى عن الصبر فذلك الزاهد، ووافقهما الزهري فقال كذلك، وقد فصل ذلك أبو سليمان فقال ابن أبي الحواري: قلت له: أكان داود الطائي رحمه الله تعالى زاهداً؟ قال: نعم، قلت: بلغني أنه ورث من أبيه عشرين دينارًا فأنفقها في عشرين سنة فكيف يكون زاهداً وهو يمسك الدنانير؟ فقال: أردت منه أن يبلغ حقيقة الزهد ولعمري أنّا روينا عن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعماً بالمال الصالح للمرء الصالح والمال الصالح هو الحلال والمرء الصالح المنفق ماله بالليل والنهار سرًّا وعلانية في سبيل اللّّه ابتغاء مرضاته كما وصفه الله تعالى ومدحه.

وقد روينا عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الله تعالى يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ ولا يعطي الدين إلا من يحبّ والذي يحبّه الله تعالى ممن أعطاه الدنيا لا يخالف حبيبه إلى هواه ولا يؤثر نفسه على محبة مولاه تبارك وتعالى إذ قد تولاه فيما أعطاه.

وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر والطاعم الشاكر هو الذي يستعين بطعمته على خدمة مولاه ويعبده شكراً لما أولاه، وقد قالوا في الزهد وصفان جامعان لأحوال القلوب، قال مضاء بن عيسى: قلت للسباع الموصلي: يا أبا محمد إلى أيّ شيء أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنس باللّّه تعالى، وقال عثمان بن عمارة: كان يقال: الورع يبلغ بالعبد إلى الزهد والزهد يبلغ به حبّ الله تعالى؛ فهذان الحالان غاية الطالبين الحبّ للجليل والأنس باللطيف، فمن لم يتحقق بالزهد لم يبلغ مقام الحبّ ولم يدرك حال الأنس ثم إن سرائر الغيوب في مقام الحبّ والخلّة، وفي حال الأنس والقربة وفّقنا الله وإياكم لما يحبّ وبلغنا ما نؤمل بفضله ورحمته ولا حول ولاقوّة إلا باللّّه العليّ العظيم وهذا آخر كتاب الزهد.

تم الجزء الأوّل من قوت القلوب ويليه الجزء الثاني أوّله

شرح مقام التوكل ووصف أحوال المتوكلين.

<<  <  ج: ص:  >  >>