قال في مثله:(يَأخُذُونَ عَرَض هذا الأدْنى) الأعراف: ١٦٩ فالأدنى تذكير الدنيا، والدنيا تأنيث أدنى كالأعين والأقنى والأشعث؛ تذكير عيناء وقنواء وشعثاء، والعرض اسم لما يعرض ويقل بقاؤه فمن أحبّ ذلك فقد أحبّ الدنيا بحبه الأدنى، وهذا يرجع إلى حبّ حياة الأصل لأنه إنما يريد العرض الأدنى لأجل الحياة فصار حبّ البقاء الذي لأجله يريد عرض الأدنى هو الدنيا وصار حبّ العرض لأجل البقاء من الدنيا فجاء من هذا الذي ذكرناه أن حقيقة الدنيا حبّ البقاء لطاعة الهوى وموافقة الهوى في حبّ العرض لأجل البقاء، فدخل أحد هذين في الآخر لأن حبّ البقاء لأجل المتعة، هو من الهوى الذي هو صفة النفس الأمّارة بالسوء وطاعة الهوى الذي هو عيش النفس إنما يكون لحبّ البقاء، لأن العبد لو أيقن بالموت ساعته لآثر الحقّ على الهوى ولو أيس من البقاء لما رغب في العرض الأدنى، فصار حبّ البقاء من الهوى وصار إيثار الهوى إنما هو لحبّ البقاء، فكان ذلك حقيقة الدنيا، وكان أقصر الناس أملا للبقاء أزهدهم في الدنيا حتى لا يدّخر شيئاً لغد لأنه عنده غير باق إلى غد وصار أرغب الناس في الدنيا أطولهم أملاً لأن رغبته اشتدت فيها وحرصه كثر عليها الإمتداد أمله للحياة فيها إذ ولو قصر أمله لغد لاختار الفقر حينئذ واختيار الفقر هو الزهد.
[بيان آخر الزهد]
أي شيء هو؟ قال الله سبحانه وتعالى:(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخسٍ دَرَاِهمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فيهِ مِنَ الزَّاهِدينَ) يوسف: ٢٠ فهذه تسمية لهم بالزهد لتحقّقهم بالمعنى نحتاج أن نكشفه ليكون من يتحقق بمعنى ذلك زاهدًا قوله تعالى: وشروه باعوه، العرب تقول: شريت بمعنى بعت لأنهم يقولون: ابتعت بمعنى اشتريت، فلما باعوه وخرج من أيديهم صاروا زاهدين، كذلك العبد إذا باع نفسه وماله من الله تعالى وخرج من هواه إلى سبيل مولاه فهو من الزاهدين، وكذلك قال المولى عزّ وعلا:(إنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤمِنِنَ أنْفُسَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ بِأنَّ لَهمُ الْجَنَّة) التوبة: ١١١ كما قال عزّ من قائل: (وَنَهى النَّفْس عَنِ الْهَوَى)(فإنَّ الْجَنَة هِيَ المأوَى) النازعات: ٤٠ - ٤١ فإذا كان العوض واحدًا وهو الجنة ذكر في المعنيين كان بيع النفس والمال وإخراجهما لله تعالى بمعنى النهي عن الهوى فيهما الذي هوالحياة الدنيا وهو اقتناؤه النفس وحبس النفس عليه أعني المال، فاستبدال ذلك بضدّه من إخراج الهوى من النفس وإدخال الفقر على المال هو الزهد في الدنيا، وليس ذلك من أمر النفس الأمّارة بالسوء لأن هذا نهاية الخير فصار نهيًا لها من الهوى الذي هو اقتناء المال للجمع والمنع، وهذا هو الدنيا بوصف النفس الأمّارة بالسوء لأن هذا حينئذ سوء كلّه، فمن كان بهذا الوصف فنفسه غير مرحومة لأمرها بالسوء، وإذا لم تكن مرحومة لم يكن صاحبها بائعها وإذا لم يبعها لم تكن مشتراة فلا يكون صاحب هذه النفس إلا جامعًا للمال ما نعاً له راغباً في الدنيا محبَّاً لها وليس هذا من صفة المؤمن والله أعلم.