للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: فقلت هذا أعجب فسألته: لم فعلت هذا؟ فقال: الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه وزن هذه المائة لنفسه للثواب من الآخرة، وطرح عليها قبضة بلا وزن لله عزّ وجلّ، فأخذت ماكانت لله عزّ وجلّ، ورردت ما كان جعله لنفسه، قال: فرددتها إلى الجنيد فبكى، وقا حلب أخذ ماله ورد مالنا والله أعلم.

ذكر اختلافهم في إخفاء العطاء وإظهاره ومن رأى أنّ الإظهار أفضل وتفضيل ذلك:

قد اختلف فعل المخلصين في ذلك فرأى بعضهم أن يخفي ما يأخذ من العطاء، لأنه أدخل في التعفف وأقرب إلى التصوّن، وأنه أسلم لقلوب الغير وأصلح لنفوس العامة، وأنّ فيه النصرة لإخوانه من الغيبة والتهمة بمثل ذلك أو بأكثر منه، وفيه الاحتياط لأخيه وعون له على البرّ والتقوى في قوله عزّ وجلّ: (إنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة: ٢٧١، وللخير الذي جاء: أفضل الصدقة جهد المقلّ إلى فقير في سرّ، ولأنّ عمل السرّ يفضّل على عمل العلانية بسبعين ضعفاً فإذا لم يعاونه هذا على إخفاء عطائه، ولم يساعده على كتم معروفه فلم يتم له ذلك بنفسه، لأنه سرّ بين اثنين إن أفشاه أحدهما أو لم يتفقا على كتمه فقد ظهر من أيها كان الخبر كيف، وقدروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استعينوا على أموركم بالكتمان، فإنّ كل ذي نعمة محسود، وهذا مذهب القرّاء من العابدين، وقال أيوب السجستاني: إني لأترك لبس الثوب الجديد خشية أن يحدث في جيراني حسد، وقال بعض الزاهدين: ربما تركت استعمال الشيء لأجل إخواني يقولون من أين، هذا وحدثونا عن إبراهيم التيمي أنّه رأى صاحباً له عليه قميص جديد فقال: من أين للك هذا؟ قال: كسانيه أخي خيثمة ولو علمت أنّ أهله علموا به ما قبلته، ودفع رجل إلى بعض العلماء شيئاً ظاهراً فردّه ودفع إليه آخر شيئاً في السرّ فقبله، فقيل له في ذلك فقال: إنّ هذا أخفى معروفه وعمل بالأدب في معاملته فقبلنا عمله، والذي أظهر معروفه أساء في الأدب في المعاملة فرددنا عمله عليه، ودفع بعض الناس إلى بعض الصوفية شيئاً بين الملاء فردّه فقيل له: لم تردّ على الله عزّ وجلّ ما أعطاك؟ فقال: إنك أشركت غير الله سبحانه وتعالى فيما لله، ولم تقنع بعين الله عزّ وجلّ فرددت عليك شركك، وقد كان بعض العلماء لا يقبل في العلانية ويأخذ في السرّ سئل عن ذلك فقال: إنّ في إظهار الصدقة إذلالاً للعلم وامتهاناً لأهله وما كنت بالذي أرفع شيئاً من الدنيا بوضع العلم وإذلال أهله، وكذلك حدثنا أنّ رجلاً دفع إلى بعض العارفين شيئاً علانية فردّه ثم

<<  <  ج: ص:  >  >>