هي السفلى، إنّ المعطى هو الفقير وإنّ المعطي هو الغني، ويصلح أن يستدلّ له بأن حقيقة الإعطاء هو النصيب من الآخرة وعطاؤه منها، فصار هو المعطى وصار الغني هو المعطي، ويكون دليل هذا القول الخبرين الآخرين قوله: إنّ الصدقة تقع بيد الله سبحانه وتعالى قبل أن تقع بيد السائل وهو يضعها في يد السائل، فقد صارت يد الفقير هي العليا، والخبر الآخر: يد الله العليا ويد المعطي الوسطى فهذا يصحح أنّ الفقير هو المعطى إذا كان يد الله تبارك وتعالى فوقه لأنها هي التي تضع في يده العطاء فكانت يده هي الوسطى.
فإن قيل: قد رتب الأيدي بقوله تعالى: يد الله هي العليا ويد المعطي هي الوسطى ويد المعطى هي السفلى، فينبغي أن يكون المعطي هو الغني إذا كان العطاء يظهر عندنا على الترتيب، قيل له: إنّ يد الله تبارك وتعالى فوقهما معاً وهي لا تدخل تحت الترتيب، فيده سبحانه وتعالى العليا عليهما جميعاً، قال تبارك وتعالى: يد الله فوق أيديهم وقد علمنا أنّ أيديهم بعضها فوق بعض، ثم أخبر مع ذلك أنها فوق الكل ولأنه هو المعطي الأوّل لهما جميعاً، فكما لا أول؛ أول منه في العطاء، فكذلك لا يد فوق يده في الإعطاء، وإنما الترتيب بين الغني والفقير أيهما المعطي بعد يد الله تعالى فقلنا: إنّ المعطي في الحقيقة إذ كان العطاء الحقيقي هو ما يبقى ويدوم لا ما يفنى ويزول؛ وذلك هو العطاء من الآخرة الباقية، فصار الفقير هو المعطي للغني في الدنيا نصيبه من الآخرة لأنه عمارة منازله فيها، والغني رفق بالفقير من الدنيا وعمارة دنياه الفانية، والدنيا موصوفة بلا شيء، فأي شيء يعطي منها؟ فأما يد الله تعالى فإنها فوقهما، والذي أعطاهما جميعاً، لأنّ يده فوق الفوق وفوق التحت لا يوصف بتحت ولا بأسفل، تعالت أوصافه العليا عن نعوت الخلق السفلى، وهو لا يدخل تحت القياس والتشبيه، فقد حدثنا بعض إخواننا عن شيخ له فقال: رأيت أبا الحسن النوري يمد يده ويسأل الناس في بعض المواطن قال: فأعظمت ذلك واستقبحته، فأتيت الجنيد فأخبرته فقال: لا يعظم هذا عليك، فإن النوري لم يسأل الناس إلاّ ليعطيهم إنماسأل لهم ليثيبهم من الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضرّه، ثم قال: هات الميزان قال: فوزن مائة درهم ثم قبض قبضة فألقاها على المائة، ثم قال: احملها إليه، قال: قلت في نفسي إنمايوزن الشيء ليعرف مقداره فهذا قد خلط منه شيئاً آخر فصار مجهولاً وهو رجل حكيم فاستحييت أن أسأله عن ذلك، قال: فذهبت بالصرّة إلى النوري فقال: هات الميزان، قال: فوزن مائة درهم وقال: ردّها عليه، وقل آه: أنا لا أقبل منك أنت شيئاً، وأخذ مازاد على المائة،