يكن ذلك شكوى، وقد كان أحمد بن حنبل لا يخبر بأمراضه إذا سئل عنها، ثم رجع إلى قول الحسن هذا، فكان بعد ذلك يحمد الله ويثني عليه ويقول: أجد كذا وأجد كذا، وروي أنه قيل لعلّي رضي الله عنه في مرضه: كيف أنت؟ فقال: بشر، فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم كرهوا ذلك فقال: أتجلد على الله، كأنّه أحبّ أن يظهر افتقاره إلى الله، وأراد أيضاً أنّ يعلمهم أنّه لا بأس بذلك لأن من يقول: بخير إذا سئل كثير، كما قال الثوري: إنما العلم الرخصة من ثقة، فأما التشديد فكل أحد يحسنه، فكان عليّ رضي اللّّه عنه أراد أن يتحقق بتأديب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له ونهيه إياه عن إظهار القوى، لأنه روي أنه مرض فسمعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم، صبرني على البلاء فقال: لقد سألت الله البلاء ولكن سل الله العافية، ومن هنا قال مطرف: لأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أن أبتلي فأصبر، لأن البلاء طريق الأقوياء، وكره أهل الإشفاق والخشية إظهار الجلد والقوّة بين يدي القوي العزيز، وقد حكي أنّ الشافعي مرض مرضة شديدة بمصر فكان يقول: اللهم، إن كان في هذا رضاك فزدني منه، فكتب إليه بعض العلماء وهو إدريس بن يحيي المعافري، يا أبا عبد الله، لست من رجال البلاء فسل الله العافية، فرجع عن قوله هذا واستغفر منه، فبعد هذا واللّّه أعلم، لعلّه ما حكي عنه أنه كان يقول في دعائه: اللهم إجعل خيرتي فيما أحببت.
[ذكر فضل التارك للتكسب]
قد يفضل التارك للتكسب شغلاً بالعبادة عن المتكسب، من حيث فضل المتقدّمون الزاهد في الدنيا على كاسب المال حلالاً ومنفقه في سبيل الله، وسئل الحسن عن رجلين، أحدهما محترف والآخر مشغول بالتعبد: أيهما أفضل؟ فقال سبحان الله ما اعتدل الرجلان المتفرغ لعبادة أفضلهما، وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كفى بالموت واعطاً وبالتقوى غنى وبالعبادة شغلاً، وقد علم التارك للتكسب توكلاً على الله وثقة به ورعاية لمقامه وصبراً على فقره وشغلاً بمعاده عن معاشه ومقاساة الفتنة، إنّ مولاه قد تكلّل له برزقه في الدنيا وقد وكل إليه عمل الآخرة، وأنه إن شغل بما وكله إليه من عمل آخرته أقام له من يقوم بكفايته من دنياه، فلو لم يتصرف المتوكل تصرف له غيره، وإنّ عمل آخرته الذي وكّله إليه هذا فلم إن لم يعمله لم يقم غيره مقامه، وإنّ الله تكفل له بعمل الدنيا، فإن لم يعمل لعمل له سواه كيف شاء، فهذا هو الفرق بين ماتكفل له به من عمل الدنيا وبين ما وكّله به من عمل الآخرة، قال الله سبحانه في رزق الدنيا الذي تكفل به: (وَكَأَيِّنْ