دفعه إليه في السرّ فقبله، فقيل له: رددت في الجهر وقبلت في السرّ؟ فقال: لأنك أطعت الله تعالى في السرّ فأعنتك على برّك بقبوله، وعصيته بالجهر فلم أكن عوناً لك على المصية، وقد كان سفيان الثوري يقول لو علمت أنّ أحدهم لا يذكر صلته ولا يتحدث بها لقبلت صلته، وفي هذا لعمري مواطأة لما ندب الله تعالى إليه من الإخفاء ولما أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضله من أعمال السرّ، وهو أيضاً لا يدخل الآخذ في نهي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله: من أهدي له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها، وقال في الحديث الآخر: أفضل ما أهدى الرجل إلى أخيه ورقاً أو يطعمه خبزاً، فجعل الورق هدية كالهدايا، وهو من أفضلها، كما قال: لأنه قيّم الأشياء، فهذا الآخذ للهدية جهراً يلزمه الإشراك للحاضرين فيها إلاّ أنْ يهبوا ذلك له، فإن لم يفعل لم يعجبني ذلك.
وذهب آخرون من أهل المعرفة الموصوفين بالتوحيد إلى أنّ الإظهار للآخذ أفضل، لأنه أسلم له، وأدخل في الإخلاص والصدق، وأخرج من الثبات والقدر والمنزلة والجاه بالردّ والزهد، وقد قال الله سبحانه:(لاَتُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ) النساء: ٨٤، قالوا: فليس علينا إذ علمنا في سلامتنا وحكم حالنا من إسقاط جاهنا بالأخذ علانية ما وراء ذلك من أقوال الناس، بتولى الله عزّ وجلّ من ذلك من به ابتلاه، وقالوا: ولأن في التوحيد أنّ الظاهر والباطن هو المعطي فلا معنى للردّ عليه في الظاهر، وقد قال بعضهم: سرّ العارف وعلانيته واحد، لأن المعبود فيهما واحد، فاختلاف فعل أحدهما شرك في التوحيد، وقال بعض العارفين: كنا لا نعبأ بدعاء من يأخذ في السرّ فرفع يده به علانية، ثم قال: هذا من الدنيا والعلانية في أمور الدنيا أفضل والسرّ في أمور الآخرة أفضل، وقال بعض المريدين: سألت أستاذي وكان أحد العارفين عن إظهار السبب أو إخفائه فقال: أظهر الأخذ على كل حال إنْ كنت آخذاً، فإنك لا تخلو من أحد رجلين، رجل تسقط من قلبه إذا فعلت ذلك فذلك هو الذي تريد، لأنه أسلم لدينك وأقلّ لآفات نفسك، وينبغي أن تعمل في ذلك، فقد جاءك بلا تكلّف، ورجل تزداد وترتفع في قلبه فذاك هو الذي يريد أخوك لأنه يزداد ثواباً بزيادة حبه لك وتعظيمه إياك فتؤجر أنت إذ كنت سبب مزيده، وينبغي أن تعمل في ذلك، وقال بعض العارفين: إذا أخذت فأظهر فإنها نعمة من الله إظهارها أفضل، وإذا رددت فأخف فإنه عمل لك وإسراره أفضل، وهذا لعمري قول فصل، وهو طريق العارفين، وقال بعض علمائنا: إظهار العطاء من الآخذ آخرة وكتمانه دنيا وإظهار الأعمال من الدنيا وكتمها آخرة، وكان هذا لا يكره الإظهار، وهذاكما قال الله تعالى:(وَأَمَّا بِنعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) الضحى: ١١ وقد ذمّ الله تبارك وتعالى من كتم ما أتاه الله من فضله وقرنه بالبُخْلِ؛ والبخل باب كبير من الدنيا فقال تعالى:(الَّذينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بالبُخْلِ وَيَكْتُمونَ مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ) النساء: ٣٧، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أنعم الله عزّ وجلّ على عبد نعمة أحبّ أن ترى عليه، وهذا هو الأقرب إلى قلوب الموحدين من العارفين، لأنه مقتضى حالهم وموجب مشاهدتهم