لاستواء ظروف الأيدي عندهم من العبيد ونفاد نظرهم إلى المعطي الأول، فاستوى سرهم وعلانيتهم في الأخذ من يده، وفصل الخطاب في هذا الباب عندي أنه يحتاج إلى تفصيل فنقول والله أعلم: إنّ الخلق مبتلي بعضه ببعض، وفرض كل عبد القيام بحكم حاله ليفضل بقيامه ويسلم في حاله، فعلى المعطي أن يخفي ويسرّ جهده، فإن أظهر ترك علم حاله فنقص بذلك، فكانت هذه آفة من آفات نفسه وباباً من أبواب دنياه، وعلى المعطي أن يذكر وينشر، فإن أخفى وكتم فقد ترك الإخلاص في عمله ونقص لذلك، وكانت آفة من آفات نفسه وباباً من دنياه مثله.
وروينا أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل له: إنّ فلاناً أعطيته ديناراً فأثنى بذلك وشكر، فقال: لكن فلان أعطيته ما بين الثلاثة إلى العشرة فما أثنى ولا شكر، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مريداً أن يشكره أو يثني عليه وهو يقول لابن الحمامة الشاعر وغيره: أما ما مدحتني به فألقه عنك، وأما مامدحت به ربك عزّ وجلّ فهاته، فإنه يحبّ المدح لكنه أراد منه القيام بحكم حاله لعلمه أنّ في الشكر والثناء حضّاً وتحريضاً على المعروف والعطاء، وأنه خلق من أخلاق الربوبية، أحبه الله عزّ وجلّ من نفسه فشكره للمنفقين وهو الرازق، وأحبّ من أوليائه أن يشكروا للأواسط ويثنوا به عليهم، وإنْ شهدوا فيه الأول، وكذلك لما قالت المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا خيراً من قوم نزلنا عليهم قاسمونا الأموال حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كلّه، فقال كلاماً شكرتم لهم وأثنيتم به عليهم، ولذلك أمر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر فقال: من أسدي إليه معروف فيلكافئ به، فإن لم يستطع فليثن به، وفي لفظ آخر: من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فأثنوا به خيراً وادعوا له حتى يعلم أن قد كافأتموه، والخبر العام بمعنى ذلك: من لم يشكر الناس لم يشكر الله،