للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالتوحيد والتزام أمره وتسليم حكمه، ثم تفاوتهم في مشاهدات التوحيد، وفي دوام الالتزام للأوامر وفي تسليم الأحكام، فليس ذلك يكون إلا عن محبة، وإنّ تفاوت المحبون على حسب أقسامهم من المحبوب، وليس يقصر عن المحبة صغير كما لا يصغر عن المعرفة من عرف، ولا يكبر عن التوبة كبير ولو كان على كل العلوم قد أوقف، لأنّ الله تعالى وصف المؤمنين بشدة الحبّ له فقال تعالى: (وَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لله) البقرة: ١٦٥ وفي قوله أشدّ دليل على تفاوتهم في المحبة لأنّ المعنى أشدّ فأشدّ ولم يقل شديد، والحب لله، فأشبه هذا الخطاب قوله تعالى: (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) الحجرات: ١٣ فدلّ على تفاوتهم في الإكرام على قدر تفاضلهم في التقوى ولم يقل: إنّ الكرام المتقون.

وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّ الله يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، فالمؤمنون متزايدون في الحبّ لله عزّ وجلّ عن تزايدهم في المعرفة به والمشاهدة له، وقد جعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحبّ لله من شرط الإيمان قال: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وفي حديث: لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وفي خبر آخر أشدّ توكيداً وأبلغ من هذين قوله: والله، لا يؤمن العبد حتى أكون أحبّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين، وفي خبر آخر: ومن نفسك، وقد أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمحبة لله فيما شرعه من الأحكام فقال أحبّوا الله لما أسدى إليكم من نعمه، وأحبّوني لحبّ الله، فدلّ ذلك على فرض الحبّ لله وإنّ تفاضل المؤمنون في نهايات فضائله، ومن أفضل ما أسدى إلينا من نعمه المعرفة به، فأفضل الحبّ له ما كان عن المشاهدة، والمحبون لله على مراتب من المحبة؛ بعضها أعلى من بعض، فأشدهم حبّاً لله أحسنهم تخلقاً بأخلاقه مثل العلم والحلم والعفو وحسن الخلق، والستر على الخلق، وأعرفهم بمعاني صفاته وأتركهم منازعة له في معاني الصفات كي لا يشركوه فيها، مثل الكبر والحمد وحب المدح وحب الغنى والعز وطلب الذكر، ثم أشدهم حبّاً لرسوله إذ كان حبيب الحبيب وأتبعهم لآثاره أشبعهم هدياً لشمائله، وقد روي أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبك فقال: استعد للفقر فقال: إني أحبّ الله فقال: استعد للبلاء، والفرق بينهما أن البلاء من أخلاق المبلي وهو الله تعالى المبتلي، فلما ذكر محبته أخبره بالبلاء ليصبر على أخلاقه، كما قال تعالى: (ولِرَبِّكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>