الرجل: لو آتاني الله ما آتى هذا فعلت كما يفعل، فندب إلى الحسد على أعمال البرّ وفضل الحاسد لما ندب الله إليه من المنافسة في أعمال الخير، فمن حسد على هذه المعاني من أعمال الخير، كان ذلك مزيداً له في مقام الرضا للغبطة به والطلب له، فأما من قلبت عليه هذه المعاني فجهل عواقب الأمور، وغلبت عليه الغفلة واستحوذت عليه الجهالة، فجعل ينظر إلى من فوقه في الدنيا فيغبطه على حاله، أو يتمنى مكانه أو يدخله نظره إليه في استصغار نعمة الله عليه ويزدري يسير ما قسمه الله له، ثم ينظر إلى من دونه في الدين من عموم المسلمين فيرضى بنقصان مقامه ويجعل ذلك معذرة له وتأسّياً به، ويثبطه عن المسارعة إلى القربات ولعله أن يداخله العجب والكبر حتى يتفضّل عليه بحاله، أو ينظر إلى نفسه بأعماله، لتقصير غيره عن مثل فعاله، فهذا إذاً يكتب جزوعاً عن الصبر كفور النعمة بإضاعة الشكر، لأنه ليس بصابر ولا شاكر، وهذا وصف من أوصاف المنافقين، وهو مقام الهالكين، إذ الصبر والشكر من صفات المؤمنين، وقد وصف هذا البلد بمثل هذا المعنى: فالله المستعان، وقد حدثونا عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى أنه قال: طفت الشرق والغرب فما رأيت بلداً شرّاً من بغداد، قيل: وكيف ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هو بلد تزدري فيه النعمة وتستصغر فيه المعصية، وحدثونا عنه أنه قيل له حين قدم خراسان: كيف رأيت الناس ببغداد؟ قال: ما رأيت بها إلا شرطياً غضبان أو تاجراً لهفان أو قارئاً حيران، وقيل إنّه كان يتصدق كل يوم بدينار لأجل مقامه ببغداد، إلى أن يخرج إلى مكة، فبلغني أنه كان يتصدّق بستة عشر ديناراً، وقد وصفها الشافعي أنها هي الدنيا، فروينا عنه أنّه قال: الدنيا كلها بادية وبغداد حاضرتها.
وروينا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: يايونس، رأيت بغداد؟ قلت: لا قال: ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس، وقد ذم العراق جماعة منهم عمر بن عبد العزيز وكعب الأحبار، فروينا عن عمر أنّه قال لمولى له: أين تسكن؟ قال: العراق، فقال له: ما تصنع هناك بلغني أنّه ما من أحد سكن العراق إلاّ قيض له قرين من البلاء، وذكر كعب الأحبار العراق يوماً فقال: فيه تسعة أعشار الشر، وفيه الداء العضال، ومن سكن بلداً كثير المنكر ظاهر المعاصي، فكان منزعجاً فيه غير مطمئن إليه يرغب إلى الله عزّ وجلّ في إخراجه منه لحسن اختياره له، وكان مضطرّاً في المقام فيه لعيلة ثقيلة أو قلّة ذات يد حقيقة، لا يستطيع حيلة في الخروج ولا يعرف طريقاً، وهو على يقين من سلامة دينه فيه، فإنه معذور عند الله لحسن تفضل من الله، وهو أقرب إلى العفو والسلامة ممن