للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه الأربع في قرن واحد مع ترتيب الحكمة والقدرة، فكيف يختلف حكمها أو يتبعّض وصفها لظهور الأسباب ووجود الأواسط.

فقال سبحانه وتعالى: (الله الَّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ) الروم: ٤،، فكما ليس في الثلاث الأخر جاعل ومظهر إلا الواحد، فكذا ليس في الرابعة من الرزق إلا هو، ألا ترى أنك لا تقول: خلقني أبي وإن كان هو سبب خلقك؟ ولا تقول أحياني وأماتني فلان وإن كان أواسط في الإحياء والقتل، لأن هذا شرك ظاهر اشتهر قبحه فترك؟ ولذلك قال الله تعالى: (أَفرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ) (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخَالِقُونَ) الواقعة: ٥٨ - ٥٩، وكذلك قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) (أأَنْتُمْ تَزْرَعُوَنهُ أمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) الواقعة: ٦٣ - ٦٤، فأضاف الإمناء والحرث إلينا، لأنها أعمال ونحن عبيد عمال، ولأنها صفاتنا وأحكامها عائدة علينا، وأضاف الخلق والزرع إليه لأنها آيات عن قدرته، وحكمته واللَّه هو القادر الحكيم، وكذلك كل ما ذكر في الكتاب من الأعمال والاكتساب أضيف إلى الجوارح المجترحة، ونسب إلى الأدوات المكتسبة، وما كان من القدرة والإرادة وصف نفسه به، لأنه المريد الأوّل والقادر الأعلى، فافهم عن الله خطابه كيلا يزيغ قلبك فيما تشابه، ثم قد يقول العبد أعطاني ومنعني فلان لأن هذا شرك خفي، ولأن الأسباب تظهر على أىديهم، وتجري بأواسطهم، فحجبوا بها عن المسبّب واستتر عنهم المعطي المانع، فقبح هذا أيضاً عند الموقنين كقبح ذاك، لأن الله تعالى نفى الرزق عن سواه كما نفى الخلق، فقال تعالى: (هَلْ مِنْ خَاِلقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ) فاطر: ٣، ولم يرد اللفظ على اللفظ وإن حسن فيقول: يخلقكم لأنه أراد سبحانه أن يفيدنا فضل بيان ويعلمنا اقتران الرزق بالخلقة، وأنهما مسببان عن القدرة، فالمتوكّل قد أيقن أنه لم يكن على الله أن يخلقه، فلما خلقه كان عليه أن يرزقه، وهكذا روي عن الله تعالى: أأخلق خلقاً ولا أرزقه؟ وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ردًّا عليهم حين قالوا: جدي في كذا وجدي في كذا، يعنون صنوف الأسباب، فنفى ذلك بقوله هذا في صلاته وأسمعهم إياه خشية دخول الشرك عليهم، أي جد العبد لا ينفعه منك شيئاً فهذا كما قال الله تعالى: (إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيْئاً) النجم: ٢٨.

قال بعض العلماء في معنى ذلك: من جدّ في الطلب وحرص وجد منك المنع لم ينفعه جده في طلبه وحرصه شيئاً، وقال أيضاً في معنى قول الله عزّ وجلّ: (وَيَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ) الرعد: ٣٩، قال: يمحو الأسباب من قلوب العارفين ويثبت القدرة ويمحو المشاهدة من قلوب الغافلين ويثبت الأسباب في صدورهم، وقال هذا أيضاً: خلق الله النفس متحركة ثم أمرها بالسكون، وهذا هو الابتلاء، فإن تداركها بالعصمة سكنت وهذا خصوص، وإن تركها تحرّكت بطبعها وجبلتها وهذا هو الخذلان، وفي وصية لقمان لابنه: يا بني اردد رغبتك إلى الله إن شاء أعطاك وإن شاء منعك، فإن حيلتك لن تزيديك ولن

<<  <  ج: ص:  >  >>