للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالمحسنين، وعلى ذلك جاء في الخبر: ليغفرنّ الله تعالى يوم القيامة مغفرة ماخطرت قطّ على قلب أحد حتى أن إبليس يتطاول رجاء أن تصيبه، وفي الخبر: إن لله تعالى تسعًا وتسعين رحمة أظهر منها في الدنيا رحمة واحدة بها يتراحم الخلائق فتحنّ الوالدة إلى ولدها وتعطف البهيمة على ولدها، فإذا كان يوم القيامة ضمّ هذه الرحمة إلى تلك التسعة والتسعين، ثم بسطها على جميع خلقه وكل رحمة منها طباق السموات والأرضين، قال: فلا يهلك على الله تعالى إلا هالك، وقد قال بعض العلماء: إن الله تعالى إذا غفر لعبد في موقف القيامة ذنباً غفر ذلك الذنب لكل من عمله، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعملوا وأبشروا واعلموا أن أحدًا لن ينجّيه عمله.

وفي الحديث الآخر: ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة ولا ينجّيه من النار، قالوا: ولا أنت يارسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة وفضل، وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، وفي لفظ آخرأترونها للمصفين المتقين بل هي للمخلصين المتلوّثين وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ وأبي موسى رضي اللّّه عنهما، وقد بعثهما واليين على اليمن فأوصاهما فيما أمرهما به فقال يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفّرا، فعلم المؤمنين بكرم الله تعالي وخفيّ لطفه، ولطيف منه لا يقعدهم عن تأميله، ولا يقصر بهم عن رجاءه، ولا حسن ظنّهم به، ولا يقوى الخوف فيخرجهم إلى الأياس من رحمته، لأجل علمهم بجبريته وكبريائه، من قبل أن المهوب هو المحبوب فمحبته تؤنسهم وترجيهم، وهيبته تزعجهم وتخيفهم فخوفهم في المهابة في لذاذة ونعيمهم بالحبّ في مهابة فهم في مقام الخوف والمحبة معتدلون، وبقوّة العلم بهما متمكنون، وفي مشاهدة المخوف والمحبوب مستقيمون، وهذا المقام هو وصف العارفين من الموقنين؛ وهم أهل كمال الإيمان وصفوة خصوص ذوي الإيقان إذ قد عرفوا أن الله تبارك وتعالى كامل في صفاته لا يعتريه نقصان في وصف دون وصف وإنما الرحمة لسعة العلم، كما العلم لسعة القدرة لما شهدوا من وصفه بما سمعوا من كلامه أنه كان عليماً قديرًا.

كذلك قال تعالى: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلمًا) غافر: ٧ وكذلك فهموا من قوله تعالى: (وَرَحْمَتي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الأعراف: ١٥٦ فدخلت جهنم وغيرها في توسعة الرحمة من حيث كنّ شيئاً وقولّه عزّ وجلّ: (فسَأَكْتُبُهَا لِلَذين يَتَّقُونَ) الإسراء: ٤٤ معناه خصوص الرحمة، وصفها لا كنهها، إذ لا نهاية للرحمة، لأنها صفة الراحم الذي لا حدّ له، ولأنه لم يخرج من رحمته شيء كما لم يخرج من حكمته وقدرته شيء، لأن جهنم والنار الكبرى وغيرهما ليس كنه عذابه ولا كلية تعذيبه، فمن ظنّ ذلك به لم يعرفه، ولأنه لما أظهر من عذابه مقدار طاقة الخلق كما أنه أظهر من ملكه ونعمه مقدار مصالح الخلق وما لا يصلح للخلق، ولا يطيقون إظهاره أكثر مما أظهر من النعيم والعذاب، بل لا ينبغي لهم أن يعرفوا فوق ما أبدى لأن نهاية تعذبيه وتنعيمه من نهاية ملكه الذي هو قائم به

<<  <  ج: ص:  >  >>