للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هما جامعان للسبعة فقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، ثم ردّ الإثنين إلى وصف واحد وعبّر عنه بمعنيين فصارت الدنيا ترجع إلى شيئين جامعين مختصرين يصلح أن يكون كلّ واحد منهما هو الدنيا، فالوصف الواحد الذي ردّ الاثنين إليه اللذان هما اللعب واللهو هو الهوى اندرجت السبعة فيه.

فقال عزّ وجلّ: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فإن الجنة هي المأوى) النازعات: ٤٠ - ١٤ فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى بدليل قوله تعالى: (فَأمَّا مَنْ طَغى) (وَآثَرَ الْحيَاةَ الدُّنْيَا) (فإن الْجَحيمَ هِيَ الْمَأْوى) النازعات: ٣٧ - ٣٨ - ٣٩، فلما كانت الجنة ضد الجحيم كان الهوى هو الدنيا لأن النهي عنه صدّ الإيثار له، فمن نهى نفسه عن الهوى فإنه لم يؤثر الدنيا وإذا لم يؤثر الدنيا فهذا هو الزهد، كانت له الجنة التي هي ضد الجحيم التي هي لم ينه نفسه عن الهوى بإيثاره الدنيا فصارت الدنيا هي طاعة الهوى وإيثاره في كل شيء فينبغي أن يكون الزهد مخالفة الهوى من كلّ شيء، وأما المعنى الآخر الذي عبّر به عن هذا الوصف الذي هو الهوى فجعله دنيا أيضًا فهو حبّ البقاء لمتعة النفس، استنبطنا ذلك من قوله تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا لمَ كَتبْتَ عَلَيْنَا القِْتَال لَولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجِلٍ قَريبٍ) النساء: ٧٧، فالقتال هو فراق الحياة الدنيا لأنه المشي بالسيف إلى السيف والفناء بين السيفين فقالوا: هلا أبقيتنا إلى وقت آخر وهو أجلنا بالموت لا بالقتل وهذا هو حبّ البقاء ففسر حبِ البقاء بأنه هو الدنيا، فقال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَليلٌ والآخرَةُ خَيْرٌ لِمَن اتَّقى) النساء: ٧٧ فانكشف الناس وافتضح المنافقون وابتلى المؤمنون عند فرض القتال وظهر المحبون الذي يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص وعندها ربح الذين هم لأنفسهم وأموالهم بائعون وخسر الذين هم للحياة الدنيا بالآخرة مشترون لما قال الله تعالى: (إنّ الله اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أنُْفسهم وَأمْوَالَهُمْ بأنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) التوبة: ١١١ فلما اشتراها باعوها وقال في المشترين الخاسرين: (اشترُوا الْحَياة الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) البقرة: ٨٦ يعني رغبوا في البقاء الأدنى لما اشتروه ببيع البقاء الآخرة إذ باعوه، فمن اشترى ثلاثين سنة وأربعين سنة بألف ألف وبأبد الأبد فما ربحت تجارته ولا هدى سبيله؛ فهذه تجارة من رغب في حياة دنياه فاشتراها ببقاء الأبد فقد صار بائعًا للحياة العالية بما استبدل به من اشتراء ضدها فهذا تدبر قوله تعالى: (اشترَوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) البقرة: ٨٦ أي باعوا الحياة العليا وذلك الأوّل تجارة من باع حياة نفسه وفرّق مجموع ماله فاشتراه الله تعالى منه وعوضه داره وأسكنه عنده جواره فقد ربحت تجارته واهتدى سبيله؛ لما باع حياة عشرين سنة وثلاثين سنة بحياة أبدالأبد؛ فهذا ربح تجار الآخرة الزاهدين في الدنيا وذلك خسر تجارالدنيا الراغبين في الهوى، فشتان بين التجارتين،

<<  <  ج: ص:  >  >>