للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال بعض العارفين وهو أبو سليمان الداراني: في كلّ المقامات لي قدم إلاّ هذا التوكّل المبارك فما لي منه إلا مشام الريح، وقال لقمان في وصيته لابنه: ومن الإيمان بالله عزّ وجلّ التوكّل على الله، فإن التوكل على الله يحبّب العبد، وإن التفويض إلى الله من هدي الله، وبهدي الله يوافق العبد رضوان ا، وبموافقة رضوان الله يستوجب العبد كرامة الله، وقال لقمان أيضاً: ومن يتوكّل على الله، ويسلّم لقضاء الله، ويفوّض إلى الله، ويرضى بقدر الله، فقد أقام الدين وفرغ يديه ورجليه لكسب الخير وأقام الأخلاق الصالحة التي تصلح للعبد أمره.

وقال بعض علماء الأبدال، وهو أبو محمد سهل: العلم كلّه باب من التعبّد، والتعبّد كلّه باب من الورع، والورع كلّه باب من الزهد، والزهد كلّه باب من التوكّل، قال: فليس للتوكلّ حدّ ولا غاية تنتهي إليه، وقال أيضاً في قول الله عزّ وجلّ: (لِيَبْلُوَكُمْ أيٍُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً) هود: ٧، قال أصدق توكلاً، وقال: التقوى واليقين مثل كفّتي الميزان والتوكل لسانه، به تعرف الزيادة والنقصان، وسئل عن قول الله عزّ وجلّ: (فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن: ١٦ قال: بإظهار الفقر والفاقة إليه، وسئل عن قوله تعالى: (اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ) آل عمران١٠٢ فقال: اعبدوه بالتوكّل، وقال أبو يعقوب السوسي: لا تطعنوا على أهل التوكّل فإنهم خاصّة الله الذين خصّوا بالخصوصية فسكنوا إلى الله، واكتفوا به، واستراحوا من هموم الدنيا والآخرة، وقال: من طعن في التوكّل، فقد طعن في الإيمان لأنه مقرون به، ومن أحبّ أهل التوكّل فقد أحبّ الله تعالى، فأوّل التوكّل المعرفة بالوكيل وأنه عزيز حكيم، يعطي لعزّه، ويمنع لحكمه، فيعتزّ العبد بعزّه ويرضى بحكمه، وكذلك أخبر عن نفسه ونبّه المتوكّلين عليه فقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكيِمٌ) الأنفال: ٤٩ عزّ من أعزّ بعطيته ونظر لمن منعه بحكمته، فإذا شهد العبد الذليل الملك الجليل قائماً بالقسط والتدبير والتقدير، عنده خزائن كلّ شيء، وكلّ شيء عنده بمقدار لاينزله إلا بقدر معلوم، وشهد الوكيل قابضاً على نواصي المماليك له خزائن السموات من الأحكام والأقدار الغائبات، وله خزائن الأرض من الأيدي والقلوب والأسباب المشاهدات، فخزائن السموات ماقسمه من الرزق، وخزائن الأرض ما جعله على أيدي الخلق، وفي السماء رزقكم وما توعدون، وفي الأرض آيات للموقنين، ولكن المنافقين لا يفقهون فأيقن العبد أن في يده ملكوت كلّ شيء وأنه يملك السمع والأبصار ويقلب القلوب والأيدي تقليب الليل والنهار، وأنه حسن التدبير والأحكام للموقنين، وأنه أحكم الحاكمين وخير الرازقين، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، ثم استوى على العرش يدبّر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه، عندها نظر العبد الذليل إلى سيده العزيز، فقوي بنظره إليه، وعزّ بقوّته به، واستغنى بقربه منه، وشرّف بحضوره عنده.

<<  <  ج: ص:  >  >>