للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأسواق ومخالطتهم على هذا الوصف المكروه أقرب إلى السلامة لبعده من رؤية الأشياء، وفقده مباشرتها، لأن الحكم متعلق بالرؤية، ومثل الحرام مثل المنكر إذا لم تره سقط عنك حكمه، وليس الخبر كالمعاينة ولا المجاورة كالمباشرة ولا المعاين كالمخبر، وذلك كخبر من زلّ عن حقيقة الكعبة على البعد إلا أنّه متوجه إلى الشطر، فصلاته جائزة ولو زلّ عنه أنملة مع المعاينة لها بطلت صلاته، والتكسب ليس بفرض وقد يفترض بأحد معنيين بوجود العيال وعدم كفايتهم من وجه من الوجوه المباحة، أو بأن يقطع عدمه عن فرض ويضعف عنه مع فقد ما يقام به الفرض مما لابدّ منه، وقد كان بشر بن الحرث ترك التكسب، وكان يتكلم في الحلال ويشدد فيه فقيل له: ياأبا نصر، فأنت من أين تأكل؟ فقال: من حيث تأكلون، ولكن ليس من يأكل وهو يبكي مثل من يأكل وهو يضحك، وقال مرة: ولكن يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة، وقد كان للثوري خمسون ديناراً يتجر له بها، ثم أخذها في آخر أمره ففرقها على إخوانه وترك التكسب، ويقال إنّه فعل ذلك لمّا مات عياله، وليس للعبد أن يحمل حال عياله على حاله إلاّ أن يكون اختيارهم كاختياره، وصبرهم على فقرهم ومعرفتهم بفضله كمعرفته، فجائز حينئذٍ أن يسير بهم سيريه، ويسقط عنه التكسب لأجلهم، لأنهم كهو في الحال مع سقوط المطالبة منهم بحقوقهم عليه، وقد فعل ذلك جماعة من السلف، وبعض العارفين يفضلون من لا معلوم له على من له معلوم، وهم لا يرون ترك التكسب أفضل لأنه معلوم، ويعد هؤلاء سكون القلب مع وجود المعلوم علة، ولكن إذا سكن قلبه مع غير معلوم، واجتمع همه وانقطع طمعه في حال المعدوم؛ فهذا هو المقام وتفصيل هذا في التوسط من المقال عندي والله أعلم أنّ العبد لا يفضل بنفس عدم المعلوم، كما لا يفضل بنفس القعود عن المكاسب، وإنما يفضل بحاله من مقامه؛ فإذا كان ذو المعلوم أحسن معرفةً وأقوى يقيناً، فضل على من لامعلوم له، ولا يكون سكون القلب وطمأنينة النفس أيضاً مع وجود المعلوم علة في الحال على قدر المقام، ولكن لا يكون مقاماً يرفع به ولا حالاً يفضل فيه، إلا أنّ الطمع في الخلق وتشتت القلب مع وجود معلوم الكفاءة نقصان عند الكل وعندي، وقطع الطمع في الخلق واجتماع القلب مع العدم أفضل وأعلى درجة عند الجماعة.

وفي حديث حية وسوار ابني خالد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهما: لاتيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما، فإنّ ابن آدم تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله بعد، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>