للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سيرة السلف أن يحتجموا في كل شهر مرة إلى أن يجاوز الرجل الأربعين وكانوا يستحبون الحجامة في آخر الشهر، وقد يروى في خبر منقطع: من احتجم يوم الثلاِثاء لسبع عشرة من الشهر كان له دواء من داء سنة، وقد روينا من طريق أهل البيت أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكتحل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب دواء كل سنة، والتداوي رخصة وسعة، وتركه ضيق وعزيمة، والله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه، وقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج: ٧٨ أي ضيق، وربما كان المتداوي فاضلاً في ذلك لمعنيين: أحدهما أن ينوي اتباع السنة، والأخذ برخصة الله، وقبول ما جاءت به الحنيفية السمحة، وقد أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير واحد من الصحابة بالتداوي والحمية، وقطع لبعضهم عرقاً، وكوى آخر، وقال لعلي رضي الله عنه، وكان رمد العين: لا تأكل من هذا يعني الرطب، وكل من هذا فإنه أوفق لك، يعني سلقاً قد طبخ بدقيق أو شعير، وقد تداوى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير حديث من العقرب وغيرها، وروي أنه كان إذا نزل عليه الوحي صدع رأسه فكان يغلفه بالحناء، وفي الخبر أنه كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء: وهو أعلى المتوكلين، وأقوى الأقوياء، فإن قيل إنما تداوى لغيره، وليسن ذلك، قلنا: فلا نرغب عن سنّته، ولا نزهد في بغيته، إذا كان فعل ذلك لنا، لئلا يكون فعلاً لغواً، وتكون الرغبة عن سنته إلى توهم حقيقة التوكل طعناً في الشرع، وقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهرة للخلق ليقتفوا آثاره، من ذلك أنه صام في السفر في شدة الحرّ، فكان يصب على رأسه الماء، ويستظل بالشجر، ليسن بذلك الرخصة في التبرد بالماء للصائم، فقيل له: إن قوماً صاموا وقد شق عليهم، فدعا بقدح فيه ماء فشرب، فأفطر الناس فترك حاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأجلهم، فقيل له: إنّ قوماً لم يفطروا فقال: أولئك العصاة، والمعنى الثاني الذي يفضل به المتداوي، أنّه يحب سرعة البرء للطاعة ولخدمة مولاه، والسعي في أوامره، إذ كانت العلل قاطعة عن التصرف في العمل ومشغلة للنفس عن الشغل بالآخرة، وذكر بعض علمائنا أنّ موسى عليه السلام اعتلّ علّة، فدخل عليه بنو إسرائيل، فعرفوا علّته، فقالوا: لو تداويت بكذا لبرأت، فقال: لا أتداوى حتى يعافيني هو من غير دواء، قال: فطالت علّته، فقالوا له: إنّ دواء هذه العلّة معروف مجرب وإن تتداوَ به تبرأ، فقال: لا أتداوى، فدامت علتّه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: وعزّتي لا أبرأتك حتى تتداوى بما ذكروه لك، فقال لهم: داووني بما ذكرتم فداووه، فبرأ فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى الله إليه أردت أن تبطل حكمتي لتوكلك على من أودع العقاقير منافع الأشياء، وفي بعض الأخبار: شكا نبي من الأنبياء إلى الله علّة يجدها، فأوحى الله إليه: كل البيض، وفي خبر آخر إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى الله تعالى الضعف فأوحى الله إليه: كل اللحم باللبن فإنّ فيهما القوّة، قال الشيخ أحسبه الضعف عن الجماع، وذكر وهب بن منبه

<<  <  ج: ص:  >  >>