للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت في خلده ووجده، وإن لم ينطق بها أو يظهرها: فأكثر الناس إيماناً وأحسنهم يقيناً أقلهم غمّاً وأيسرهم أسى على ما فات من الدنيا، وأحسنهم رضا وأنفذهم شهادة من رأى أن ذلك نعمة أوجبت عليهم شكراً، وأقل الناس إيماناً وأضعفهم يقيناً أشدهم أسى وأكثرهم غمّاً على ما فات، وأطولهم شكوى وأقلّهم شكراً، فالمصائب محنة تكشف الزهد في الدنيا والرغبة، ألم تسمع إلى الحديث الذي جاء فيه هذا الدعاء: وأسألك من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، فشدة الغمّ على فوت الدنيا دليل على حبّها وعلامة ضعف اليقين بمحبوبه وسهوله الغمّ على فوتها دليل على الزهد فيها وقوة اليقين بربّه، فإن وجد المتوكل رحله بحاله لم يضرّه بتبقيته شيء وكان له أحر ما قد نوى من المعاملات، ولا أعلم هذا القول واعتقاده عند خروج العبد من منزله أو تركه لرحله أو خروجه في سفر ينفعه شيئاً ولا يضرّه، ولا يقدم ضياع شيء حكم الله ببقائه له ولا يؤخر ترك العقد لهذا تبقية ما حكم الله بذهابه، ومع ذلك فيكون له حال من التوكل ومقامات في المعاملات إلاّ شيئاً واحداً من باب نقصان الدنيا من طريق الورع، فإنه ينقصه وهو أنّه إن أخذ ما توكّل على الله فيه، وفوّض إليه أمره به، ثم ردّ عليه، لم يستحبّ له في الورع أن يتملّكه، ولا أن يرجع فيه في حسن الأدب، لأنه قد كان جعله صدقة في سبيل الله، فإن رجع فيه لم ينقص ذلك توكله، لأنه قد صحّ تفويضه إلى الوكيل في الخالين معاً، فيكون ردّه عليه لأنه قد كان وهبه له بمنزلته ابتداء عطاء منه.

وقد روينا أنّ ابن عمر سرقت ناقته فطلبها حتى أعيا، ثم قال: في سبيل الله، فدخل المسجد وصلّى ركعتين فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنّ ناقتك في مكان كذا، فلبس نعله وقام ثم نزعها، ثم قال: أستغفر الله، وجلس فقيل له: ألا تذهب فتأخذها فقال: إني قد كنت قلت: في سبيل الله، وحدثت عن بعضهم قال: رأيت بعض إخواني في النوم بعد موته فقلت: مافعل الله بك؟ فقال: غفر لي وأدخلني الجنة، وعرضت على منازلي فيها فرأيتها، قال وهو في ذلك كئيب حزين فقلت: قد دخلت الجنة وغفر لك وأنت حزين، فتنفّس الصعداء ثم قال: نعم إني لاأزال حزيناً إلى يوم القيامة، قلت: ولم ذلك؟ قال: إني لما رأيت منازلي من الجنة رفعت لي مقامات في عليين ما رأيت مثلها فيما رأيت، ففرحت بها، فلما هممت بدخولها، نادى منادٍ من فوقها: اصرفوه عنها فليست هذه له، إنما هذه لمن أمضى السبيل فقلت: وما أمضى السبيل؟ قيل لي: قد كنت تقول للشيء إذا ذهب منك: في سبيل الله، ثم ترجع فيه فلو كنت أمضيت السبيل لأمضيناها لك، وقد حدّثونا أن الربيع بن خيتم سرق فرسه وكان ثمنه عشرين ألفاً، وكان قائماً يصلّي فلم يقطع صلاته ولم ينزعج لطلبه فجاءه الناس يعزونه فقال: أما إني قد كنت رأيته وهو

<<  <  ج: ص:  >  >>