للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحكمة والنبؤّة، ولكن سكت بين يديه استحياءً منه، واعترف لديه بالجهل لأنه عند علاّم الغيوب، واراد أن يسمع منه حقيقة وصفه لأنّه أصدق القائلين وأمدح الواصفين.

وأما الغيرة فحال سنية من أحوال المحبين، لأنه قد أظهرهم على معاني نفسه فضنوا بها لما امتلأت بها قلوبهم، وحارت فيها عقولهم، إلا أنّ هؤلاء خصوص أصحاب اليمين، وهم عموم المحبين، إلاّ إنّه إذا رفعهم إلى مقام التوحيد فأشهدهم الإيجاد بالوحدانية والانفراد بالفردانية نظروا، فإذا هو لم يعط منه لسواه شيئاً ولا أظهر من معانيه وصفاً، فانطوت الغيرة من توحيدهم لماعرفوا بيقين التوحيد أنه مانظر إليه سواه، ولا عرفه إلاّ إيّاه، فتسقط هممهم بالغيرة عليه، وعرفوا حكمته بتعريفه أنواع ما يظهر وأقسام ما ينشر، وأنه في غيب غيبه لايظهر عليه سواه وفي سرّسرّه لا يشهده إلاّ إيّاه، فقام لهم مقام المعرفة بالتوحيد مقام الغيرة عليه، فهذا إذا طولعوا به مقام الموحدين من الصدِيقن، وقد روينا في دلائل المحبّ وأوصافه أبياتاً عن يحي بن معاذ، وأبي تراب النخشبي، وعن أبي سعيد الخراز أي أيضاًَ على قافية واحدة في معان متقاربة، وهي جامعة مختصرة في نعت المحبين من المريدين، وفي وصف السائحين من المرادين بالتقرّب والانقطاع أولى الأحوال والمشاهدات الرفاع، فالذي روينا عن أبي تراب هذه الأبيات:

لا تخدعنّ فللمحبّ دلائل ... ولديه من تحف الحبيب وسائل

منها تنعّمه بمر بلائه ... وسروره في كل ما هو فاعل

فالمنع منه عطية مقبولة ... والفقر إكرام ولطف عاجل

ومن اللطائف أن يرى من عزمه ... طوع الحبيب وإنّ ألحّ العاذل

ومن الدلائل أن يرى متبسّماً ... والقلب فيه من الحبيب بلابل

ومن الدلائل أن يرى متفهّماً ... لكلام من يحظى لديه السائل

ومن الدلائل أن يرى متقشفاً ... متحفظاً من كل ما هو قائل

والذي رويناه عن يحيي بن معاذ:

ومن الدلائل أن تراه مشمراً ... في خرقتين على شطوط الساحل

ومن الدلائل حزنه ونحيبه ... جوف الظلام فما له من عاذل

ومن الدلائل أن تراه مسافراً ... نحو الجهاد وكل فعل فاضل

ومن الدلائل زهده فيما يرى ... من دار ذل والنعيم الزائل

ومن الدلائل أن تراه باكياً ... أن قد رآه على قبيح فاعل

ومن الدلائل أن تراه مسلماً ... كل الأمور إلى المليك العادل

ومن الدلائل أن تراه راضياً ... بمليكه في كل حكم نازل

ومن الدلائل ضحكه بين الورى ... والقلب محزون كقلب الثاكل

<<  <  ج: ص:  >  >>