للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا مذهب السلف ولا طريقة العارفين، كتب عامر بن عبد الله إلى بعض إخوانه: آنسك الله بنفسه، وقيل لإبراهيم بن أدهم وقد نزل من الجبل: من أين أقبلت؟ قال: من الأنس بالله وأنشدونا لبعض العارفين:

الأنس بالله لا يحويه بطال ... وليس يدركه بالحول محتال

والآنسون رجال كلهم نجب ... وكلهم صفوة لله عمال

وقد روينا في التفسير عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله عزّ وجلّ: (الَّذينَ آمَنُوا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) الرعد: ٢٨، قال: هشت إليه وأنست به، وفي مقام الأنس يكون التملق والمناجاة، ومعه تكون المحادثة والمجالسة، ومعنى من البسط، ولا يحبّ الله تعالى هذا النوع من الإدلال إلاّ ممن أقامه مقام الأنس، ولا يحسن ذلك إلاّ منهم لنحو قول موسى عليه السلام في مقام الأنس: يا رب لي ماليس لك، قال: وماهو؟ قال: لي مثلك وليس لك مثل نفسك، قال: صدقت، معنى قوله: مثلك أي لي أنت كقوله تعالي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) الشورى: ١١، معناه ليس كهو شيء لأنّه لا مثل له، فيكون لمثله مثل إذ لا يكون لمثله مثل، والعرب تعبر بالمثل عن نفس الشيء وفوق هذا من البسط ما أخبر الله تعالى عنه أنّه قال مواجهاً للجليل العظيم: إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون، وأعظم من هذا قوله: اذهب إلى فرعون، فقال مجيباً له، فأرسل إلى هارون ولهم عليّ ذنب، ومثله قوله: إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري فحسن هذا منه، لأنّه أقامه مقام البسط بين يديه والأنس به، ولأنّ مكانه لديه مكان محبوب، فأدلّ به عليه فحمله ذلك، وهذا من غير موسى في غير هذا المقام من سوء الأدب بين يدي المرسل، ولم يحتمل ليؤنس عليه السلام خاطراً من هذا القول لما أقيم مقام القبض والخوف، حتى عوقب بالسجن في بطن الحوت في البحر، في ظلمات ثلاث، ونودي عليه إلى يوم الحشر، لولا أنْ تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم، وقيل: عراء القيامة، ونهي الله تعالى حبيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي به في القول والفعل فقال تعالى: (فَاصِبْر لِحُكُمِ رَبِّكَ ولاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إذْ نَادي وَهُوَ مَكْظُومٌ) القلم: ٤٨، وقد قال تعالى: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) البقرة: ٢٥٣، واحتمل لإخوة يوسف ما عزموا عليه واعتقدوه وما فعلوه وما أسروه من قولهم: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم إلى نحو ذلك من الكلام والفعال، ولقد عددت من أول قولهم ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منا إلى رأس العشر من أخباره عنهم في قوله، وكانوا فيه من الزاهدين نيفاً وأربعين خطيئة بعضها أكبر من بعض، قد يجتمع في الكلمة الواحدة الأربعة والخمسة من الخطايا، ودون ذلك وفوقه بدقائق الاستخراج ومعرفة خفايا الذنوب، فغفر لهم ذلك إن كانوا في مقام محبوبين، ولم يحتمل لعزير

<<  <  ج: ص:  >  >>