للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يؤثر علّي شيئاً من خلقي، وإن حرق بالنار لم يجد لحرق النار وجعاً، وإن قطع بالمناشير لم يجد للمس الحديد ألماً، وقد روينا عن الخليل الحبيب عليه السلام أنه قال: تحابوا في الله وتصافوا وتباذلوا وتخاللوا فيها، وليس من كرم الله تعالى أن اتخذ عبداً من عباده خليلاً فنبه أن الخلّة من الله تعالى كانت لأوليائه عن فرط كرمه وفضل آلائه، ألحقهم بكرامته وأهلهم بفضله لها وعظمهم عن نصيب تعظيمه فيها، والله الواسع الكريم ذو الفضل العظيم، إذا رفع عبداً جاوز به الحدود، وإذا خفضه وضعه تحت المحدود، وقد تكلم الجنيد رحمه الله تعالى في مقام من هذا وقد سئل عنه فقال: هو غاية الحبّ وهو مقام عزيز يستغرق العقول وينسي النفوس، وهو من أعلى علم المعرفة بالله تعالى، وقال: في هذا المقام يعلم العبد أنّ الله عزّ وجلّ يحبه ويقول العبد: بحقي عليك وبجاهي عندك ويقول: بحبك لي، قال: وهؤلاء هم المدلون على الله تبارك وتعالى، والمستأنسون بالله تعالي، وهم جلساء الله تعالى، قد رفع الحشمة بينه وبينهم وزالت الوحشة بينهم وبينه، فهم يتكلمون بأشياء هي عند العامة كفر بالله لما قد علموا أن الله تعالى يحبهم، وأنّ لهم عند الله جاهاً ومنزلة، ثم قال عن بعض العلماء: أما أهل الأنس بالله تعالى فليس إلى معرفتهم سبل، هذا من كلام الجنيد ونحو معناه حدثني به الخاقاني المقري، ولولا أنّا روينا عنه ما ذكرناه لا ما كنا نشرح حال هؤلاء إشفاقاً على الألباب كما قال المجلى:

وأن أشرح ثناءك غير أني ... أجلك عن كتاب في كتاب

وقد كان شيخنا أبو بكر بن الجلاء رحمه الله كتب إلى شيخنا أبي الحسن بن سالم رحمه الله تعالى، يسأله عن مسائل من معاني السرائر في كتاب، فحدثني من رآه: رمى بالكتاب وقال: أين صاحب هذه المسائل؟ فقيل: هو غائب بمكة فقال: أنا لا أجيب عن هذا في كتاب، قولوا له: يحضر إن أراد، وقد حدثني ابن الجلاء بهدا لأن مقام الخلّة هو الذي أخفيناه وعظمناه، لا يعطاه العبد إلاّ في مقام مع مقام، فالمقام الأوّل هو المعرفة الخاصية بظهور تعرف كشفاً عن وصف الباطن، ثم يدخل عليه المحبة المخصوصة وهو مقام محبوب، ثم يرفع من هذا المقام إلى مقام الخلة وهو الإشراف على سرائر غيوب من شرفات العرش وسرادقات القدس وغير ذلك، والأصل فيما ذكرناه أنه سبحانه يعطي مقامات المعرفة في مقام عارف، ولا يعطي فيه مقام محبوب، وقد يعطي مقامات من المحبة في مقام محبّ ولا يعطي شهادته خلّة لغير خليل عارف، فإذا جمع مقام معرفة تعرّف إلى مقام محبة محبوب أعطي مقاماً من الخلّة الذي وصفناه، وهذا من أعز ما أظهر في الكون لمظهر مكنون، وروينا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خطب الناس قبل موته بثلاث فقال: إن الله تعالى قد اتخذ صاحبكم خليلاً

<<  <  ج: ص:  >  >>