للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني التي وصفناها، أن تكون عقوداً من تفصيل أعمال الجوارح، فيما توجب الأفعال الظاهرة التي وصفها أن تكون علانية، إلاّ أنّ ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضادّ، وليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم، إذ قد يجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن، فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف ظاهر جسمه، والدليل على ذلك أنه جعل وصف الاسمين معنى واحداً في حديث ابن عمرو في حديث وفد عبد القيس الذي ذكرناه قبل عن ابن عباس، وقد روى ذلك مفصّلاً في حديث عليّ رضي الله تعالى عنه: الإيمان قول باللسان، وعقد بالقلب، وعمل بالأركان، فأدخل أعمال الجوارح في عقود الإيمان، وأيضاً فإن الأمة مجمعة أنّ العبد لو آمن بجميع ما ذكرناه من عقود القلب في حديث جبريل عليه السلام من وصف الإيمان، ولم يعمل بما ذكرناه من وصف الإسلام بأعمال الجوارح لا يسمّى مؤمناً، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان أنه لا يكون مسلماً.

وقد أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وليس فيه دليل على أنّ الإسلام غير الإيمان، أو أنّ المسلمين سويّ المؤمنين، أو أنّ الإيمان ضدّ الإسلام، والوجه الثاني من تأويل الخبر أنّ معنى قوله أو مسلم يعني به أو مستسلم، فإذا جمع بين عقود القلب وبين أعمال الجوارح كان مسلماً مؤمناً، ومن لم يقل بهذا الذي ذكرناه فقد كفّر أبا بكر رضي الله تعالى عنه وجهله في قتال أهل الردة وادّعى عليه أنه قتل المؤمنين، لأن القوم جاؤوا بعقود الإيمان ولم يجحدوا التوحيد ولا أكثر الأعمال وإنما أنكروا الزكاة فاستحلّ قتلهم، وواطأه الصحابة على ذلك حتى استتاب من رجع منهم.

وأما الحديث الآخر الذي جاء ظاهره أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرّق بين المؤمن والمسلم في أنه أعطى رجلاً ولم يعط الآخر، فقال له سعد: يا رسول الله تركت فلاناً لم تعطه وهو مؤمن فقال: أو مسلم؟ فأعاد عليه، فأعاده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلم؟ فإنما في هذا دليل على تفرقة الإيمان والإسلام في التفاضل والمقامات؛ أي ليس هو من خصوص المؤمنين ولا أفاضلهم، فكشف مقامه الذي خفي على سعد كما كشف مقام حارثة عن حقيقة إيمانه، إذ كان خاملاً لا يؤبه له فقال: كيف أصبحت؟ فنطق بوجده عن مشاهدته، فقال: عرفت فالزم؛ فهذا دليل لنا في تفضيل مقام الإيمان على مقام الإسلام، وأنّ المؤمنين يتفاضلون في الإيمان، وإن تساووا في أعمال الجوارح من الإسلام، وأنّ الإيمان لا حدّ له وإن كانت صحته بمحدود الإسلام، فآثر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي آمن طوعاً على المكره، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يعطي من المؤلفة الرؤساء، ومن لا يؤمن عاديته، وجمعه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحريضه المشركين كما أكرم الرجل بعد أنّ تكلم فيه فقيل له في ذلك، فقال: هذا أحمق مطاع، أو من يكثر عشيرته وأتباعه فيكون ظهيراً على المؤمنين،

<<  <  ج: ص:  >  >>