فحالك أن تعاونه على ظلمه لنفسه، فترك الثناء لمثل هذا أفضل له وأسلم لك فهذا تفصيل ما أجمله الصادقون ثم اختلفوا في الأخذ من الواجب أفضل أم التطوع؟ فرأى بعضهم أن يأخذ من الواجب ولا يقبل من التطوع، أي لأنّ الواجب يؤخذ بإذن الله تعالى عن قسمه، وإنّ الله تعالى أوجب عليه أن يأخذه من حيث أوجب الزكاة، لأن الفقراء والمساكين لو تواطؤوا على أن لايقبلوا الزكوات أثموا أجمعون ولعصوا كلهم بذلك لإسقاطهم فرض الله عزّ وجلّ من الأموال بالزكوات، قالوا: ولأنّ هذا أدخل له في جملة الضعفاء والمساكين وأقرب إلى التواضع والذلة، قالوا: ولا منّة لأحد علينا فيه ولا حق يلزمنا عليه إذ كنا نستحق ذلك منه، قالوا: ولأنه أسلم لديننا لئلايدخل علينا الأكل بالدين لأنّا إنما نستوجبه بالحاجة وحرمة الإسلام فقط، ونخاف أن يكون أخذنا التطوع أكلاً بديننا أو أنّا أعطينا لصلاحنا واعتقاد فضلنا فلا نحبّ أن نخصّ بشيء دون الفقراء، وهذا مذهب القراء من العابدين، ومن ينظر إلى صلاحه ونفسه في الدين هو مقتضى حالهم وموجب شهادتهم، واختارت طائفة أن يأخذوا من النوافل دون الفرائض أجروه مجرى الهدية وقالوا: قد أمر بقبولها وندب إلى التهادي للتآلف والتحبّب، قالوا: ولانزاحم المساكين في حقوقهم ولعلنا لانكمل أوصافهم، ونخاف أن لايوجد فينا ما شرط الله عزّ وجلّ لواجبه، ولانضعه في حقيقة موضعه، أو لا نحتاط لمن يسقط عنه الواجب به، فالتطوع أوسع علينا، ومع هذا فإنهم يشهدون النعمة من الله تعالى وأنّ الدين إنما هو لله عزّ وجلّ، كا قال:(ألاّ لله الدين الخالص) الزمن: ٣، وأنهم مستعملون بأنفسهم من حيث كانوا منعماً عليهم لا منعمين على أنفسهم، وهذه طريقة بعض أهل المعرفة، وممن ذهب إلى هذا إبراهيم الخواص وأبو القاسم الجنيد ومن وافقهما، والأمر في ذلك عندي أنّ من لم يأخذ من كلا إنسان ولا في كل أوان، ولم يقبل إلاّ عند الحاجة، وما لابدّ له منه، ثم قام بحكم الله تعالى في الواجب وحكمه في التطوع أنّ الحالين يتقاربان، لأنّ الواجب أمر الله تبارك وتعالى فيه حكم، والتطوع ندب، وله عزّ وجلّ فيه حكم، فعلى العبد أن ينظر لدينه ويحتاط لأخيه فيعمل بما يوجب الوقت من الحكم من أيهما كان فسواء ذلك، ولا ينظر بظلمة في هوى الحظ ففي ذلك سلامته.