وَالثَّانِي. أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَذَا اسْتِبْقَاءَ أَهْلِيهِمْ، وَبَقَاؤُهُمْ بِمَنْ يَعُولُهُمْ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنْفُسُهُمْ. قُلْنَا: نَعَمْ هُمْ قَصَدُوا هَذَا، وَلَكِنْ حُرِمُوا هَذَا الْمَقْصُودَ حِينَ خَذَلَهُمْ اللَّهُ فَلَمْ يَذْكُرُوا أَنْفُسَهُمْ بِشَيْءٍ، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. ثُمَّ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ الْأَمَانُ، بَلْ بِإِعْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُمْ الْأَمَانَ. وَإِنَّمَا أَعْطَوْا أَهْلِيهِمْ فَقَالُوا: أَمَّنَّاهُمْ وَلَوْ يَقُولُوا أَمَّنَّاكُمْ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَقَعَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ. وَكَانَ الَّذِي يَسْعَى فِي طَلَبِ الْأَمَانِ لِلْجَمَاعَةِ قَدْ آذَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اللَّهُمَّ أَغْفِلْهُ عَنْ نَفْسِهِ. فَطَلَبَ الْأَمَانَ لِقَوْمِهِ وَأَهْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ. فَأُخِذَ وَقُتِلَ. ثُمَّ الْإِنْسَانُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يَسْعَى فِي اسْتِنْقَاذِ أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، إمَّا لِانْقِطَاعِ طَمَعِهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤَمَّنُ إنْ طَلَبَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَلَّ مِنْ نَفْسِهِ لِفَرْطِ الضَّجَرِ. فَبِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ الدَّلِيلُ مُشْتَرَكٌ، وَبِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ لَا ذِكْرَ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: نَضَعُ أَيْدِيَنَا فِي أَيْدِيكُمْ عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُوا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فَفَعَلَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، لَمْ نُدْخِلْهُمْ فِي الْأَمَانِ. فَإِنَّ مَعْنَى كَلَامِهِمْ: أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا فِي أَيْدِيكُمْ لِتَفْعَلُوا بِنَا مَا شِئْتُمْ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ. فَإِنْ قَالُوا: نَخْرُجُ إلَيْكُمْ عَلَى أَنْ نُرَاوِضَكُمْ فِي الْأَمَانِ عَلَى أَهْلِينَا. فَقَالُوا لَهُمْ: اُخْرُجُوا. فَلَمَّا خَرَجُوا أَمَّنُوا أَهْلِيهِمْ. فَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ أَمَّنُوا أَهْلِيهِمْ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ حِينَ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لِلْمُرَاوَضَةِ عَلَى الْأَمَانِ، فَهَذَا أَمَانٌ مِنْهُمْ لَهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَهَيَّأْ بَيْنَهُمْ أَمَانٌ فِي شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ وَلَا يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِشَيْءٍ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. فَهُنَاكَ قَالُوا وَهُوَ فِي الْمَطْمُورَةِ: أَمِّنُوا أَهْلِينَا. فَأَمَّنَّا أَهْلِيهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ ذَلِكَ الْكَلَامُ، ثُمَّ خَرَجُوا لَا عَلَى طَلَبِ الْأَمَانِ فَكَانُوا فَيْئًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute