إِن أَبَا بكر لَا يخرج مثله، وَلَا يخرج، أتخرجون رجلا يكْسب الْمَعْدُوم، ويصل الرَّحِم، وَيحمل الْكل، ويقري الضَّيْف، ويعين على نَوَائِب الْحق، فَلم تكذب قُرَيْش بجوار ابْن الدغنة.
وَفِي رِوَايَة يُونُس:
فأنفذت قُرَيْش جوَار ابْن الدغنة، وَقَالُوا: فليعبد ربه فِي دَاره، وَليصل فِيهَا، وليقرأ مَا شَاءَ وَلَا يؤذنا وَلَا يستعلن بِهِ، فَإنَّا نخشى أَن يفتن نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. قَالَ ذَلِك ابْن الدغنة لأبي بكر. فَلبث أَبُو بكر بذلك، يعبد ربه فِي دَاره وَلَا يستعلن بِصَلَاتِهِ، وَلَا يقْرَأ فِي غير دَاره، ثمَّ بدا لأبي بكر فابتنى مَسْجِدا بِفنَاء دَاره، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، فيتقصف عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين وأبناؤهم، يعْجبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بكر رجلا بكاء لَا يملك عينه إِذا قَرَأَ الْقُرْآن، فأفزع ذَلِك أَشْرَاف قُرَيْش من الْمُشْركين، فأرسلوا إِلَى ابْن الدغنة، فَقدم عَلَيْهِم، فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أجرنا أَبَا بكر بجوارك على أَن يعبد ربه فِي دَاره، فقد تجاور ذَلِك، فابتنى مَسْجِدا بِفنَاء دَاره وأعلن بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَة فِيهِ، وَإِنَّا قد خشينا أَن يفتن نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فأته، فَإِن أحب أَن يقْتَصر على أَن يعبد ربه فِي دَاره فعل، وَإِن أَبى إِلَّا أَن يعلن بذلك فسله أَن يرد إِلَيْك ذِمَّتك، فَإنَّا قد كرهنا أَن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قَالَت عَائِشَة: فَأتى ابْن الدغنة إِلَى أبي بكر فَقَالَ: قد علمت الَّذِي عاقدت لَك عَلَيْهِ، فإمَّا أَن تقتصر على ذَلِك، وَإِمَّا أَن ترجع إِلَيّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أحب أَن تسمع الْعَرَب أَنِّي أخفرت فِي رجل عقدت لَهُ. فَقَالَ أَبُو بكر: فَإِنِّي أرد إِلَيْك جوارك، وأرضى بجوار الله، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ بِمَكَّة.
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْمُسلمين:
إِنِّي أريت دَار هجرتكم سبخَة، ذَات نخل، بَين لابتين " وهما الحرتان، فَهَاجَرَ من هَاجر قبل الْمَدِينَة، وَيرجع عَامَّة من كَانَ بِأَرْض الْحَبَشَة إِلَى الْمَدِينَة، وتجهز أَبُو بكر قبل الْمَدِينَة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " على رسلك، فَإِنِّي أَرْجُو أَن يُؤذن لي " فَقَالَ أَبُو بكر وَهل ترجو ذَلِك بِأبي أَنْت؟ قَالَ: " نعم ". فحبس أَبُو بكر نَفسه على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعلف راحلتين كَانَتَا عِنْده من