السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ تَوَضَّأَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَوْمَهُ تَارَةً يَكُونُ نَاقِضًا، وَأُخْرَى لَا بِحَسَبِ الْحَالَيْنِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ وَضَوْءَهُ كَانَ لِلتَّجْدِيدِ، أَوْ لِنَاقِضٍ غَيْرِ النَّوْمِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ يَنْدَفِعُ الِاسْتِدْلَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُ نَسِيَ لِيَسُنَّ ; يَعْنِي الْحِكْمَةَ فِي نَوْمِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ ذُهُولُهُ بِالْحَضْرَةِ الْبَاطِنِيَّةِ عَنِ الطَّاعَةِ الظَّاهِرِيَّةِ، لِيُعْرَفَ حُكْمُ الْقَضَاءِ بِالدَّلِيلِ الْفِعْلِيِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ، عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُؤَيِّدَ لِلدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ عَلَى قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَلْبَهُ كَانَ يَقْظَانَ، وَعَلِمَ خُرُوجَ الْوَقْتِ وَسَكَتَ عَلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ التَّشْرِيعِ - فَبَاطِلٌ مَرْدُودٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَمَا اخْتَلَفَ حَالُهُ مِنْ نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ فِي حَقٍّ وَتَحْقِيقٍ، وَمَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي كُلِّ طَرِيقٍ وَفَجٍّ عَمِيقٍ إِنْ نَسِيَ فَبِآكَدَ مِنَ الْمَنْسِيِّ اشْتَغَلَ، وَإِنْ نَامَ فَبِقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ عَلَى اللَّهِ أَقْبَلَ، وَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَامَ لَا نُوقِظُهُ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا هُوَ فِيهِ عَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ نِسْيَانُهُ لِشَيْءٍ مِنْهَا» لَمْ يَكُنْ عَنِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ بِالتَّصَرُّفِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ مِثْلِهَا لِيَكُونَ لَنَا سُنَّةً.
(ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ) أَيْ لَهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَذِّنْ لِأَنَّ الْقَوْمَ حُضُورٌ. قُلْتُ: هُنَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ وَلَوْ كَانُوا حُضُورًا فَالْأَفْضَلُ إِتْيَانُ الْإِقَامَةِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ الْأَذَانِ، بَلْ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، أَنَّهُ جُمِعَ بَيْنَهُمَا، فَالْمَعْنَى: فَأَقَامَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْأَذَانِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْفَائِتَةَ لَا يُؤَذَّنُ لَهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ،. لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ هُوَ مَذْهَبُهُ الْقَدِيمُ أَنَّهُ يُؤَذَّنُ لَهَا لِمَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، «ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى صَلَاةَ الْغَدْوَةِ، فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ» ، وَلِقَوْلِهِ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَخْ. إِذِ الْإِقَامَةُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَرْضِ بِشَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: كَمَا كَانَ إِلَخْ. مَعَ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ - يَدْفَعُ احْتِمَالَ أَنْ يُرَادَ الْأَذَانُ فِيهِ الْإِقَامَةُ، فَاقْتِصَارُ مُسْلِمٍ عَلَيْهَا وَخَبَرُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَمَّا حُبِسَ عَنِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِتِلْكَ الْفَوَائِتِ» ، لَا يُعَارِضُ مَا مَرَّ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْهُ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَضِيَّةِ الْخَنْدَقِ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ» ، وَلَا يَضُرُّ انْقِطَاعُهَا لِأَنَّ الْمُنْقَطِعَ يَصْلُحُ لِلتَّقْوِيَةِ اهـ.
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي فَوَائِتِ الْخَنْدَقِ. أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ كَانَ فِي أُولَى الْفَوَائِتِ، وَالِاقْتِصَارَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي الْبَقِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا. (فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ) أَيْ: قَضَاءً (فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ) أَيْ: فَرَغَ مِنْهَا (قَالَ (مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ) وَفِي مَعْنَى النِّسْيَانِ النَّوْمُ، أَوْ مَنْ تَرَكَهَا بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَلِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ سَبَقَتْ، " أَوْ نَامَ عَنْهَا " وَهِيَ الْمُنَاسِبَةُ هُنَا، وَعَلَى حَذْفِهَا فَاكْتَفَى بِالنِّسْيَانِ عَنِ النَّوْمِ ; لِأَنَّهُ مِثْلُهُ بِجَامِعِ مَا فِي كُلٍّ مِنَ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ التَّقْصِيرِ (فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا) فَإِنَّ فِي التَّأْخِيرِ آفَاتٍ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَائِتَةِ وَالْأَدَائِيَّةِ كَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: ١٤] قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ أَيْ: إِذَا ذَكَرْتَ صَلَاتِي بَعْدَ النِّسْيَانِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute