الثَّلَاثَةِ لَا تُجْزِئُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ إِجْمَاعًا، وَمَا اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ أَنَّ مَنْ صَلَّى دَاخِلَ الْكَعْبَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ تَكُونُ قَضَاءَ الدَّهْرِ، بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. ثُمَّ الْمُضَاعَفَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ بَلْ تَعُمُّ سَائِرَ الطَّاعَاتِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَقَالَ: صَوْمُ يَوْمٍ بِمَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَصَدَقَةُ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَكُلُّ حَسَنَةٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ. وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ بِسَنَدٍ حَسَنٍ خِلَافًا لِمَنْ ضَعَّفَ: «إِنَّ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ كُلُّ حَسَنَةٍ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ خَبَرَ: «مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ وَقَامَ فِيهِ مَا تَيَسَّرَ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِيمَا سِوَاهُ، وَكُتِبَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ حِمْلُ فَرَسَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَرَوَى الْبَزَّارُ خَبَرَ: «رَمَضَانُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ» ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ تُضَاعَفُ بِمَكَّةَ كَالْحَسَنَاتِ مِنْهُمُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ، ثُمَّ قِيلَ: تَضْعِيفُهَا كَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ بِالْحَرَمِ، وَقِيلَ: بَلْ كَخَارِجِهِ، وَأَخَذَ الْجُمْهُورُ بِالْعُمُومَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: ١٦٠] وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَوْلَ بِالْمُضَاعَفَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مُضَاعَفَةُ الْكَيْفِيَّةِ لَا الْكَمِّيَّةِ، فَإِنَّ السَّيِّئَةَ جَزَاؤُهَا سَيِّئَةٌ، لَكِنَّ السَّيِّئَاتِ مُتَفَاوِتَةٌ إِذْ لَيْسَ مَنْ عَصَى الْمَلِكَ عَلَى بِسَاطِ مُلْكِهِ كَمَنْ عَصَاهُ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ بَلَدِهِ، قِيلَ: يَرْجِعُ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ الْحَمْلِ أَيْضًا إِذْ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ سَيِّئَةٍ مُعَظَّمَةٍ تُقَدَّرُ بِمِائَةِ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَبَيْنَ سَيِّئَةٍ بِمِائَةِ أَلْفِ سَيِّئَةٍ عَدَدًا ; وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَرَدَ: مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ زَادَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ دَخَلَ النَّارَ، وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْحَرَمِ الْمُقْتَضِي لِتَعْظِيمِ السَّيِّئَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: ٢٥] فَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ كَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الْهَمِّ فِيهِ بِالسَّيِّئَةِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا، وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ لِأَفْضَلِيَّةِ الْمَدِينَةِ بِخَبَرِ: «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ» وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ: مَوْضُوعٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَخَبَرِ: ( «اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إِلَيَّ فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَيْكَ» ) وَهُوَ مُرْسَلٌ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: بَلْ مَوْضُوعٌ، وَخَبَرِ: ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ» ) يَدُلُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ لَا الْأَفْضَلِيَّةِ، وَقَدْ صَحَّ فِي فَضِيلَةِ مَكَّةَ أَحَادِيثُ أَيْضًا مِنْهَا خَبَرُ: ( «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ» ) ، وَخَبَرُ: ( «مَا أَطْيَبَكِ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» ) . وَمِنْهَا خَبَرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: ( «أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً» ؟) قَالُوا: لَا إِلَّا بَلَدَنَا الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَجَابِرًا يَشْهَدَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ النَّاسَ: ( «أَيُّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً» ؟) فَأَجَابُوا بِأَنَّهُ مَكَّةُ. وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْبِلَادِ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَفْضِيلِ مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ حَتَّى عَلَى الْكَعْبَةِ الْمُنِيفَةِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا عَدَاهُ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عُقَيْلٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْعَرْشِ، وَصَرَّحَ الْفَاكِهَانِيُّ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى السَّمَاوَاتِ قَالَ: بَلِ الظَّاهِرُ الْمُتَعَيِّنُ تَفْضِيلُ جَمِيعِ الْأَرْضِ عَلَى السَّمَاءِ لِحُلُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ بِهَا، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَكْثَرِينَ لِخَلْقِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا وَدَفْنِهِمْ فِيهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَفْضِيلِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ أَيْ: مَا عَدَا مَا ضَمَّ الْأَعْضَاءَ الشَّرِيفَةَ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا عَدَا الْكَعْبَةَ، فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَدِينَةِ اتِّفَاقًا، مَا عَدَا مَوْضِعَ قَبْرِهِ الْمُقَدَّسِ وَمَحَلِّ نَفْسِهِ الْأَنْفَسِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا دَامَ الصُّبْحُ تَنَفَّسَ وَاللَّيْلُ إِذَا عَسْعَسَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute