قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ حَزْمٍ: فَهَذَانِ صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ يَقُولَانِ بِفَضْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ. وَفِي رِسَالَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إِلَى الرَّجُلِ الزَّاهِدِ الَّذِي أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «مَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ رَكْعَتَيْنِ فَكَأَنَّمَا صَلَّى فِي مَسْجِدِي أَلْفَ صَلَاةٍ، وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْبُلْدَانِ» ) إِذَا تَأَمَّلْتَ ذَلِكَ عَلِمْتَ ضَعْفَ مَا قِيلَ عَلَى رِوَايَةِ «صَلَاةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» ، تَبْلُغُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فِيهِ عُمُرَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَصَلَاةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فِيهِ تَبْلُغُ مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَسَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، وَعَشْرَ لَيَالٍ اهـ.
وَضَعَّفَ مَا قِيلَ أَيْضًا: صَلَاةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ. كَمَا وَرَدَ: كُلُّ صَلَاةٍ فِيهِ جَمَاعَةً بِأَلْفَيْ أَلْفِ صَلَاةٍ وَسَبْعِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِيهِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ صَلَاةٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ بِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كُلُّ مِائَةِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ صَلَاةٍ، وَكُلُّ أَلْفِ سَنَةٍ بِأَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ. فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ صَلَاةً وَاحِدَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمَاعَةً، يَفْضُلُ ثَوَابُهَا عَلَى ثَوَابِ مَنْ صَلَّى فِي بَلَدِهِ فُرَادَى، حَتَّى بَلَغَ عُمُرَ نُوحٍ بِنَحْوِ الضِّعْفِ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ تُسَاوِي رِحْلَةً اهـ.
وَهَذَا كُلُّهُ كَالَّذِي قَبْلَهُ غَفْلَةٌ عَنِ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ: صَلَاةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ بِمَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا فَالْحَسَنَاتُ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، ثُمَّ لَا تَنَافِيَ فِي الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي التَّضْعِيفِ ; لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدِيثَ الْأَقَلِّ قَبْلَ حَدِيثِ الْأَكْثَرِ، ثُمَّ تَفَضَّلَ اللَّهُ بِالْأَكْثَرِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفَاوُتُ الْأَعْدَادِ لِتَفَاوُتِ الْأَحْوَالِ ; لِمَا جَاءَ أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِينَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ. وَوَرَدَ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَكَرَ الْفَاكِهَانِيُّ بِلَفْظِهِ: «فِكْرَةُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» ، مِنْ كَلَامِ السِّرِّيِّ السَّقْطِيِّ.
قُلْتُ: ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «فِكْرَةُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» ، رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، الْأَوَّلِ: أَنَّهُ الْحَرَمُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: التَّفْضِيلُ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ فَإِنَّهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، فَجَعَلُوا حُكْمَ الْبَيْتِ غَيْرَ حُكْمِ الْمَسْجِدِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيُمْكِنُ إِبْقَاءُ حَدِيثِ: أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ، عَلَى عُمُومِهِ، فَتَكُونُ النَّافِلَةُ فِي بَيْتِ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ، تُضَاعَفُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلَ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ مَكَّةُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ لِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ: «صَلَاةٌ بِمَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ» . وَالرَّابِعِ: أَنَّهُ الْكَعْبَةُ وَهُوَ أَبْعَدُهَا. قِيلَ: وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ كُلَّهَا الْحَسَنَةُ بِمِائَةِ أَلْفٍ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ حَسَنَةَ الْحَرَمِ مُطْلَقًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، لَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِذَا قِيلَ: بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي، وَلَمْ يَقُلْ حَسَنَةً. وَصَلَاةٌ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، كُلُّ صَلَاةٍ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ، فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَشَرَةِ آلَافِ حَسَنَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْحَقَ بَعْضُ الْحَسَنَاتِ بِبَعْضٍ، أَوْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ لِمَعْنًى فِيهَا الْكَعْبَةُ وَحْدَهَا. الرِّوَايَةُ إِلَّا الْكَعْبَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: إِلَّا الْمَسْجِدَ وَالْكَعْبَةَ، وَفِي أُخْرَى لِمُسْلِمٍ إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ الْمُضَاعَفَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْفَرْضِ، بَلْ تَعُمُّ النَّفْلَ أَيْ تَعُمُّ النَّفْلَ أَيْضًا خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْفَرْضِ لِزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً، وَلَا يُنَافِي عُمُومَ التَّضْعِيفِ لِلنَّفْلِ كَوْنُهُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلَ حَتَّى فِي الْكَعْبَةِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: ( «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» ) ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي فَضِيلَةِ الِاتِّبَاعِ مَا يَرْبُو عَلَى الْمُضَاعَفَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ: صَلَاةُ الظُّهْرِ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلُ مِنْهَا بِمَكَّةَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنْ جَعَلْنَا الْمُضَاعَفَةَ مُخْتَصَّةً بِهِ لَمَا تَقَرَّرَ أَنَّ فِي فَضِيلَةِ الِاتِّبَاعِ مَا يَرْبُو عَلَى فَضِيلَةِ الْعَمَلِ. وَالْمُضَاعَفَةُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِزَمَنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمُخْتَارِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالتَّضْعِيفِ السَّابِقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَجْرِ دُونَ الْإِجْزَاءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَالصَّلَاةُ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute