الْأَبْرَارِ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهَا نَفْعٌ كَثِيرٌ ; فَاقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ الصِّحَّةِ، وَالْحُسْنِ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ مِنَ الصِّحَاحِ، وَالْحِسَانِ إِكْمَالًا (تَكَلَّمَ فِيهِ) : جَوَابُ لَمَّا، أَيْ: طَعَنَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ كِتَابِهِ (بَعْضُ النُّقَّادِ) : بِضَمِّ النُّونِ، وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، أَيِ: الْعُلَمَاءِ النَّاقِدِينَ الْمُمَيِّزِينَ بَيْنَ الصَّحِيحِ، وَالضَّعِيفِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الطَّعْنَ فِي رِجَالِ الْحَدِيثِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِسْنَادِهِ، وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِذِكْرِهِ، وَعَدَمِ ذِكْرِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا يُتَصَوَّرُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِسْنَادَانِ، فَلَوْ ذَكَرَ لَهُ إِسْنَادَهُ الثَّابِتَ لَمَا وَجَدَ الطَّاعِنُ فِيهِ مَطْعَنًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ. . .) إِلَخْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ كَانَ اعْتِرَاضُ ذَلِكَ الْبَعْضِ مَدْفُوعًا عَنْهُ لِكَوْنِهِ ثِقَةً، وَإِذَا نُسِبَ الْحَدِيثُ إِلَى الْأَئِمَّةِ الْمُخْرِجِينَ الْمُورِدِينَ لِلْحَدِيثِ مَعَ الْإِسْنَادِ بِقَوْلِهِ: الصِّحَاحُ: مَا فِيهِ حَدِيثُ الشَّيْخَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، وَالْحَسَنُ: مَا فِيهِ أَحَادِيثُ سَائِرِ السُّنَنِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْإِسْنَادِ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ أَيْ: تَكَلَّمَ فِي حَقِّهِ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُبْصِرِينَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْحَدِيثِ، وَسَقَمَهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِسْنَادِ، فَإِذَا لَمْ يُذْكُرْ لَمْ يُعْرَفِ الصَّحِيحُ مِنَ الضَّعِيفِ ; فَيَكُونُ نَقْصًا (وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ) أَيْ: نَقْلُ الْبَغَوَيِّ بِلَا إِسْنَادٍ، وَالْوَاوُ وَصْلَيَّةٌ (وَإِنَّهُ مِنَ الثِّقَاتِ) أَيِ: الْمُعْتَمَدِينَ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ، وَبَيَانِ صِحَّتِهِ، وَحُسْنِهِ، وَضَعْفِهِ (كَالْإِسْنَادِ) أَيْ: كَذِكْرِهِ، رُوِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِي (إِنَّهُ) عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي نَقْلِهِ، وَرُوِيَ: بِفَتْحِهَا لِلْعَطْفِ عَلَى اسْمِ كَانَ يَعْنِي نَقْلَهُ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ وَكَوْنُهُ مِنَ الثِّقَاتِ كَالْإِسْنَادِ ; لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ مَنِ اشْتُهِرَتْ أَمَانَتُهُ، وَعُلِمَتْ عَدَالَتُهُ، وَصِيَانَتُهُ فَيُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِهِ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ إِسْنَادِ الشَّيْءِ لِمَحَلِّهِ (لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ) : أَعْلَامُ الشَّيْءِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ آثَارُهُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا (كَالْأَغْفَالِ) : بِالْفَتْحِ، وَهِيَ الْأَرَاضِي الْمَجْهُولَةُ لَيْسَ فِيهَا أَثَرٌ تُعْرَفُ بِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا فَهُمَا مَصْدَرَانِ لَفْظًا، وَضِدَّانِ مَعْنًى، وَأَرَادَ بِالْأَوَّلِ كِتَابَهُ الْمِشْكَاةَ، وَبِالثَّانِي الْمَصَابِيحَ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَغْفَالٌ كَالْأَعْلَامِ، وَلَعَلَّهُ قَلَبَ الْكَلَامَ تَوَاضُعًا مَعَ الْإِمَامِ، وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ عَنْ بُلُوغِ ذَلِكَ الْمَرَامِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ فِي صَنِيعِ الْبَغَوِيِّ قُصُورًا فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ عَدَمُ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ أَوَّلًا، وَعَدَمُ ذِكْرِ الْمُخْرِجِ فِي كُلِّ حَدِيثٍ آخِرًا، فَإِنَّ ذِكْرَهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ: أَمَّا ذِكْرُ الصَّحَابِيِّ فَفَائِدَتُهُ: أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ يَتَعَدَّدُ رُوَاتُهُ، وَطُرُقُهُ، وَبَعْضُهَا صَحِيحٌ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ، فَيُذْكَرُ الصَّحَابِيُّ لِيُعْلَمَ ضَعِيفُ الْمَرْوِيِّ مِنْ صَحِيحِهِ، وَمِنْهَا: رُجْحَانُ الْخَبَرِ بِحَالِ الرَّاوِي مِنْ زِيَادَةِ فِقْهِهِ، وَوَرَعِهِ، وَمَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ، وَمَنْسُوخِهِ بِتَقَدُّمِ إِسْلَامِ الرَّاوِي، وَتَأَخُّرِهِ، وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُخْرِجِ فَفَائِدَتُهُ: تَعْيِينُ لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَتَبَيْيُنُ رِجَالِ إِسْنَادِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَعْرِفَةُ كَثْرَةِ الْمُخْرِجِينَ، وَقِلَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، لِإِفَادَةِ التَّرْجِيحِ، وَزِيَادَةِ التَّصْحِيحِ، وَمِنْهَا: الْمُرَاجَعَةُ إِلَى الْأُصُولِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُصُولِ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَنَافِعِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْوُصُولِ. هَذَا، وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْمِشْكَاةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ النُّقَّادِ) أَيْ: تَكَلَّمَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْحَذْفِ الَّذِي اسْتَلْزَمَ عِنْدَهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بَعْضُ النُّقَّادِ كَالنَّوَوِيِّ، وَابْنِ الصَّلَاحِ، وَغَيْرِهِمَا، فَقَالُوا: مَا جَنَحَ إِلَيْهِ فِي مَصَابِيحِهِ مِنْ تَقْسِيمِ أَحَادِيثِهِ إِلَى صِحَاحٍ، وَحِسَانٍ مَعَ صَيْرُورَتِهِ إِلَى أَنَّ الصِّحَاحَ: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، أَوْ أَحَدِهِمَا، وَالْحِسَانَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالنَّسَائِيِّ، وَالدَّارِمِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، اصْطِلَاحٌ لَا يُعْرَفُ، بَلْ هُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ ; إِذِ الْحَسَنُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي كُتُبِ السُّنَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا غَيْرُ الْحَسَنِ مِنَ الصَّحِيحِ، وَالضَّعِيفِ، لَكِنِ انْتَصَرَ لَهُ الْمُؤَلِّفُ فَقَالَ: لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ بَلْ تَخْطِئَةُ الْمَرْءِ فِي اصْطِلَاحِهِ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَالْبَغَوِيُّ قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: أَعْنِي بِالصِّحَاحِ كَذَا، وَبِالْحِسَانِ كَذَا، وَمَا قَالَ أَرَادَ الْمُحَدِّثُونَ بِهِمَا كَذَا فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ خُصُوصًا، وَقَدْ قَالَ: وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ ضَعِيفٍ، أَوْ غَرِيبٍ أُشِيرُ إِلَيْهِ، وَأَعْرَضْتُ عَمَّا كَانَ مُنْكَرًا، أَوْ مَوْضُوعًا اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَمْلَ التَّكَمُّلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ نَقْلُهُ. . .) إِلَخْ، وَلَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (لَكِنْ لَيْسَ مَا فِيهِ أَعْلَامٌ) إِذْ لَا يَصْلُحُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا جَوَابًا، وَلَا الثَّانِي اسْتِدْرَاكًا صَوَابًا (فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى) أَيْ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: ٦٨] وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute