عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَذْكُرِ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الِاعْتِدَالِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَفِيهِ أَنَّ الِاطْمِئْنَانَ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ هَذَا سَهْوٌ مِنْهُ إِذْ فِي قَوْلِهِ: " حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا " التَّصْرِيحُ بِوُجُوبِ الْقِيَامِ مِنَ الرُّكُوعِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِدَالُ وَالطُّمَأْنِينَةُ اللَّذَانِ قُلْنَا بِوُجُوبِهِمَا، فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الِاعْتِدَالِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فَتَأَمَّلَ فِيهِمَا، (" ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ") : حَالٌ مُؤَسِّسَةٌ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (" ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ") ، أَيْ: لِلِاسْتِرَاحَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَلِمَةُ " حَتَّى " فِي هَذِهِ الْقَرَائِنِ لِغَايَةِ مَا يَتِمُّ بِهِ الرُّكْنُ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ دَاخِلَةٌ فِيهِ، وَالْمَنْصُوبُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الْهَيْئَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَرِيضَةٌ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ فَإِنَّهُ يُؤَوِّلُهُ بِنَفْيِ الْكَمَالِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعَادَةِ إِنَّمَا كَانَ لِتَرْكِهِ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِهَا.
قُلْتُ: قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: بِتَرْكِ الْفَرْضِ تُفْرَضُ الْإِعَادَةُ، وَبِتَرْكِ الْوَاجِبِ تَجِبُ وَبِتَرْكِ السُّنَّةِ تُسْتَحَبُّ، ثُمَّ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَلَمَّا قَالَ: " عَلَّمَنِي " وَصَفَ لَهُ كَيْفِيَّةَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى نَعْتِ الْكَمَالِ، وَلِذَلِكَ بَدَأَ فِي تَعْلِيمِهِ بِالْأَمْرِ فِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْإِعَادَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طُهْرٍ لَقَالَ: ارْجِعْ فَتَوَضَّأَ.
قَالَ النَّوَوِّيُ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْوَاجِبَاتِ دُونَ السُّنَنِ، فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ كُلَّ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا كَالنِّيَّةِ وَالْقُعُودِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَتَرْتِيبِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْوَاجِبَاتِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَ السَّائِلِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيَانِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِدَالِ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَلَمْ يُوجِبْهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ، هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ عَنْهُ جَوَابٌ صَحِيحٌ.
قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُهُ: كَانَتِ الْوَاجِبَاتُ مَعْلُومَةً عِنْدَ السَّائِلِ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ، بَلْ بَعِيدٌ جِدًّا ; لِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْعِبَادَاتِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَغَالِبُهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ فَرْضًا عَنِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَالْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَعَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ. . . فَلِمَ ذَكَرَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ أَوْ تَرَكَ بَعْضَهَا، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْمَذْكُورَاتِ أَظْهَرُ مِنَ الْمَحْذُوفَاتِ، ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ وُجُوبُ الِاعْتِدَالِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ كَانَ تَارِكًا لِبَعْضِ السُّنَنِ وَأَمَّا وَجْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ بَعْضَ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ وَتَرَكَ بَعْضَهَا، فَمُفَوَّضٌ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَمَّا الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، فَتَقَدَّمُ عَنِ الْإِمَامِ التُّورِبِشْتِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّعْدِيلُ فَرْضًا لَمَا أَقَرَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِمَا تَرَكَهُ، وَلَا أَنَّهُ وَاجِبٌ، أَوْ سُنَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
يَعْنِي: فَإِذَا كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُصَرِّحْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْإِعَادَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَنَا وَلَا عَلَيْنَا، (وَفِي رِوَايَةٍ) ، أَيْ: بَدَلَ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا (" ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ ") ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِمَّا يُمْكِنُ تَكْرِيرُهُ فَخَرَجَ نَحْوُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ (" فِي صَلَاتِكِ ") ، أَيْ: رَكَعَاتِكَ (" كُلِّهَا " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute