وَلَعَلَّ تَرْكَ سَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ طَهَارَةِ الثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ اكْتِفَاءٌ بِالشُّهْرَةِ (" فَكَبِّرْ ") ، أَيْ: تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، وَهِيَ شَرْطٌ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: ١٥] ، وَرُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَتَرَكَ ذِكْرَ النِّيَّةِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الشُّرُوطِ لِوُضُوحِهَا وَلِعَدَمِ خُصُوصِيَّتِهَا بِالصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَانَ حِكْمَةُ الْفَاءِ هَاهُنَا دُونَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا أَنَّ التَّكْبِيرَ يَعْقُبُ الِاسْتِقْبَالَ غَالِبًا بِخِلَافِهِ مَعَ الْوُضُوءِ، وَبِخِلَافِ التَّكْبِيرِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِافْتِتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: ٣] فَيَتَضَمَّنُ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَفْعُولِ الْمُقَدَّرِ، وَالتَّكْبِيرُ مَعْنَاهُ التَّعْظِيمُ، فَيَجُوزُ بِلَفْظِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَبِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى تَعْظِيمِهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: ١٥] وَحَدِيثُ تَحْرِيمِهَا التَّكْبِيرُ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَوَائِلِ صَلَاتِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " مَعَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبًا لَا عَلَى كَوْنِهِ رُكْنًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَيُحْتَرَزُ مِنْ مَدِّ هَمْزَةِ الْجَلَالَةِ، وَمِنْ إِشْبَاعِ بَاءِ أَكْبَرَ، فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ مُتَعَمِّدُ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَخَبَرُ التَّكْبِيرِ جَزْمٌ لَمْ يَصِحَّ اهـ، وَمَحَلُّهُ غَيْرُ هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ حَالَةُ الْوَقْفِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَجْزُومًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُعَلَّقُ بِمَعْنَى أَكْبَرَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ مُقَارَنَةُ النِّيَّةِ لِلتَّكْبِيرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَبَحْثُ النِّيَّةِ وَالتَّلَفُّظِ بِهَا قَدْ مَرَّ مُسْتَوْعَبًا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، (" ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ ") ، أَيْ: لَكَ حَالَ كَوْنِهِ (" مَعَكَ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مَا تَعْلَمُهُ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، أَيْ: أَوْجِدِ الْقِرَاءَةَ مُسْتَعِينًا بِمَا تَيَسَّرَ أَوْ زَائِدَةٍ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مَا تَيَسَّرَ بِدُونِ الْبَاءِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ، أُتِيَ بِالْبَاءِ فِي التَّنْزِيلِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ " اقْرَأْ " يُرَادُ بِهِ الْإِطْلَاقُ، أَيْ: أَوْجِدِ الْقِرَاءَةَ بِاسْتِعَانَةِ مَا تَيَسَّرَ لَكَ (" مِنَ الْقُرْآنِ ") ، وَفِي الْحَدِيثِ كَمَا فِي آيَةِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: ٢٠] ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ، وَمَا دُونَ الْآيَةِ غَيْرُ مُرَادٍ إِجْمَاعًا فَتَبْقَى الْآيَةُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَرَادَ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْفَاتِحَةِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُهَا بِبَيَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: ١٩٦] وَالْمُرَادُ الشَّاةُ بِبَيَانِ السُّنَّةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا كَمَا يَجِبُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ مَحَلُّهَا كُتُبُ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَدْيِ الشَّاةُ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ بِمَا تَيَسَّرَ هُوَ الْفَاتِحَةُ، وَمَنِ ادَّعَى فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ " إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِهِ نَقُولُ مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَةَ لَمْ تَتَكَرَّرْ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَتُحْمَلُ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنَّهَا رُوِيَتْ بِاللَّفْظِ، وَالْأُخْرَى عَلَى أَنَّهَا رُوِيَتْ بِالْمَعْنَى وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَعْنَى، فَفِي تَصْحِيحِ الرِّوَايَةِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ الْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ مُطْلَقًا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، وَعِنْدَنَا فَرْضٌ فِي رَكْعَتَيْنِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الْأُولَيَيْنِ فَبِطَرِيقِ الْوُجُوبِ وَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْقِرَاءَةُ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَعِنْدَ بَعْضٍ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، (" ثُمَّ ارْكَعْ ") : الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَرْضَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالِاطْمِئْنَانُ فِيهِمَا فَرْضٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: وَاجِبٌ عِنْدَهُمَا (" حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ") : حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ، نَعَمِ التَّأْكِيدُ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِ: (" ثُمَّ ارْفَعْ ") ، أَيْ: رَأْسَكَ (حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا) : الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَاجَبَتَانِ عِنْدَهُمَا، وَفَرْضَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَعَ جَلَالَتِهِ: أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute