فِيمَا قُلْتُ (هَكَذَا كَانَ) ، أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يُصَلِّي، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَالدَّارِمِيُّ) ، أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) ، أَيْ: حَسَنٌ لِذَاتِهِ، صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ.
وَفِي رِوَايَةٍ، أَيْ: أُخْرَى (لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ) : أَيْضًا (ثُمَّ رَكَعَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَيْهِمَا، وَوَتَّرَ يَدَيْهِ) ، أَيْ: عَوَّجَهُمَا مِنَ التَّوْتِيرِ، وَهُوَ جَعْلُ الْوَتَرِ عَلَى الْقَوْسِ (فَنَحَّاهُمَا عَنْ جَنْبَيْهِ) : مِنْ نَحَّى تَنْحِيَةً إِذَا أَبْعَدَ يَعْنِي: مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، حَتَّى كَأَنَّ يَدَهُ كَالْوَتَرِ وَجَنْبَيْهِ كَالْقَوْسِ، وَفِي النِّهَايَةِ، أَيْ: جَعَلَهُمَا كَالْوَتَرِ مِنْ قَوْلِكَ: وَتَّرْتُ الْقَوْسَ وَأَوْتَرْتُهُ، شَبَّهَ يَدَ الرَّاكِعِ إِذَا مَدَّهَا قَابِضًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ بِالْقَوْسِ إِذَا أُوتِرَتْ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ نَاصِبًا سَاقَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِحْنَاؤُهُمَا شَبَهَ الْقَوْسِ كَمَا يَفْعَلُهُ عَامَّةُ النَّاسِ مَكْرُوهٌ، ذَكَرَهُ فِي رَوْضَةِ الْعُلَمَاءِ، (وَقَالَ: ثُمَّ سَجَدَ فَأَمْكَنَ) ، أَيْ: أَقْدَرَ (أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ الْأَرْضَ) : بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ: وَضَعَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَفِي الْهِدَايَةِ: إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَيْ: مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَنْفِ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْمُعْتَبَرُ وَضْعُ مَا صَلُبَ مِنَ الْأَنْفِ لَا مَا لَانَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ وُجُوبُ وَضْعِ الْجَبْهَةِ وَكَوْنِهَا عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ: مَكْشُوفَةً إِنْ أَمْكَنَ وَوُجُوبُ التَّحَامُلِ عَلَيْهَا لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «إِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَلَا تَنْقُرْ نَقْرًا» ، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى كَشْفِ الْوَجْهِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ وُجُوبِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَصَحَّ أَيْضًا أَنَّهُمْ شَكَوْا إِلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ شَكْوَاهُمْ أَيْ فِي الْمَجْمُوعِ، مِنْ ثَمَّ لَمْ يَجِبْ كَشْفُ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَلَّى فِي مَسْجِدِ بَنِي الْأَشْهَلِ، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُلَفَّعٌ بِهِ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ يَقِيهِ الْحَصَا» اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مُدَّعَاهُ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّجْدَةُ عَلَى السَّجَّادَةِ، فَيُحْمَلُ عَدَمُ إِزَالَةِ الشَّكْوَى عَلَى عَدَمِ إِجَازَةِ تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى آخَرِ الْوَقْتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَحِكْمَةُ وُجُوبِ كَشْفِ الْجَبْهَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ لِسُهُولَتِهِ فِيهَا دُونَ الْبَقِيَّةِ، وَحُصُولِ مَقْصُودِ السُّجُودِ بِهِ، وَهُوَ غَايَةُ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ لِمُبَاشَرَةِ أَشْرَفِ مَا فِي الْإِنْسَانِ لِمَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ وَالنِّعَالِ، فَهُوَ مُشْتَرِكُ الدَّلَالَةِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالسُّنِّيَّةِ الَّتِي قُلْنَا بِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَاكْتُفِيَ بِبَعْضِهَا لِمَشَقَّةِ وَجُوبِهَا عَلَى كُلِّهَا، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَجَدَ عَلَى بَعْضِهَا، وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ هُوَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَلَا يُنَافِي قَوْلَ الشَّافِعِيِّ بِكَرَاهَتِهِ، وَفَّى الْحَدِيثِ أَيْضًا وُجُوبُ وَضْعِ أَنْفِهِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ كَأَصْحَابِنَا بِحَمْلِ أَخْبَارِ الْأَنْفِ عَلَى النَّدْبِ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى الْجَبْهَةِ، وَرَدَّهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ ثِقَةٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا (وَنَحَّى) : بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: بَعَّدَ (يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّهُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ، «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَجَدَ وَوَضَعَ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ» اهـ.
وَمَنْ يَضَعُ كَذَلِكَ يَكُونُ يَدَاهُ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ، فَيُعَارِضُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَمَّا سَجَدَ وَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ بِأَنْ فُلَيْحَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْوَاقِعَ فِي سَنَدِ الْبُخَارِيِّ، وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ تَثْبِيتُهُ، لَكِنَّهُ قَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ، فَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَيَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ، وَالسَّاجِيُّ وَقَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّهُمَا تَيَسَّرَ جَمْعًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute