للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الْأَفْضَلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: " لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ "، مَعَ قَوْلِهِ: " إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ " ; فَإِنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ تَقْتَضِي الزِّيَادَةَ، وَالْمِثْلِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ؟ قُلْتُ: هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:

وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ يَعْنِي: إِنْ قُدِّرَ أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ، فَتَحْصُلُ الْأَفْضَلِيَّةُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِيهَا، فَإِذَنْ لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ التَّمِيمِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُسَاوُونَكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِأَحَدِ الْأَغْنِيَاءِ، أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ، (قَالُوا: بَلَى) ، أَيْ: عَلِّمْنَا ذَلِكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ ") : إِخْبَارٌ بِمَعْنَى الْأَوَامِرِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ: " تَسْمَعُ بِالْمُعِيدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ "، (" دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ") ، أَيْ: مَكْتُوبَةٍ (" ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَبْلُغُ هَذَا الْعَدَدَ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ عَشْرٌ اهـ، الْأَنْسَبُ التَّأْيِيدُ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، إِحْدَى عَشْرَةَ، إِحْدَى عَشْرَةَ، فَذَلِكَ كُلُّهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ.

(قَالَ أَبُو صَالِحٍ) ، أَيْ: رَاوِي أَبِي هُرَيْرَةَ (فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ) : بَدَلٌ، وَفَائِدَةُ الْبَدَلِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ غِبْطَةٌ لَا حَسَدٌ (بِمَا فَعَلْنَا) : ضَمَّنَ سَمِعَ مَعْنَى الْإِخْبَارِ، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ (فَفَعَلُوا مِثْلَهُ) ، أَيْ: مِثْلَ مَا فَعَلْنَا وَإِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى الْقَوْلِ شَائِعٌ سَائِغٌ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَلِكَ ") ، أَيِ: الزَّائِدُ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ عَلَى الْجُودِ بِأَمْوَالِهِمْ مُنْضَمًّا إِلَى فِعْلِهِمْ مَا فَعَلَهُ الْفُقَرَاءُ، (" فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، نَعَمْ لَا يَخْلُو الْغَنِيُّ مِنْ أَنْوَاعٍ مِنَ الْخَطَرِ، وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ آمَنُ اهـ.

قَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي إِحْيَاءِ الْعُلُومِ: " وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ الْجُنَيْدُ وَالْخَوَّاصُ وَالْأَكْثَرُونَ إِلَى فَضْلِ الْفَقْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ الْقَائِمُ بِحَقِّهِ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْجُنَيْدَ دَعَا عَلَى ابْنِ عَطَاءٍ لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ فِي هَذَا، فَأَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ "، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى إِذَا أُخِذَا مُطْلَقًا لَمْ يَسْتَرِبْ مَنْ قَرَأَ الْأَخْبَارَ وَالْآثَارَ فِي تَفْضِيلِ الْفَقْرِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ فَنَقُولُ: إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الشَّكُّ فِي مَقَامَيْنِ، أَحَدِهِمَا: فَقِيرٌ صَابِرٌ لَيْسَ بِحَرِيصٍ عَلَى الطَّلَبِ، بَلْ هُوَ قَانِعٌ وَرَاضٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَنِيٍّ مُنْفِقٍ مَالَهُ فِي الْخَيْرَاتِ، لَيْسَ حَرِيصًا عَلَى إِمْسَاكِ الْمَالِ.

الثَّانِي: فَقِيرٌ حَرِيصٌ مَعَ غَنِيٍّ حَرِيصٍ ; إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْفَقِيرَ الْقَانِعَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الْحَرِيصِ الْمُمْسِكِ، وَأَنَّ الْغَنِيَّ الْمُنْفِقَ مَالَهُ فِي الْخَيْرَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ الْحَرِيصِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَرُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّ الْغِنَى أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ، لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي ضَعْفِ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ، وَالْغَنِيُّ مُتَقَرِّبٌ بِالصَّدَقَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْفَقِيرُ عَاجِزٌ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ظَنَّهُ ابْنُ عَطَاءٍ فِيمَا نَحْسَبُهُ، فَأَمَّا الْغَنِيُّ الْمُتَمَتِّعُ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُبَاحٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَى الْفَقِيرِ الْقَانِعِ، وَقَدْ يَشْهَدُ لَهُ مَا رُوِيَ

<<  <  ج: ص:  >  >>