أَنَّ الشَّيْطَانَ عَيْنَهُ غَيْرُ نَجِسٍ وَأَنَّ لَمْسَهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: ٢٧] مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ لَا تَرَوْنَ صُوَرَهُمُ الْأَصْلِيَّةَ الَّتِي خَلَقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا لِمَزِيدِ لُطْفِهَا الْخَارِجِ عَنْ قُدْرَةِ أَبْصَارِنَا لِمَا غَلَبَ عَلَيْهَا مِنْ كَثَافَةِ عُنْصُرِنَا الْغَالِبِ عَلَيْنَا، وَهُوَ التُّرَابُ (" فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ ") : بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَامُوسِ، أَيْ: أَشُدُّهُ (" عَلَى سَارِيَةٍ ") ، أَيْ: أُسْطُوَانَةٍ (مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ") : الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ (" حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ ") : أَيْ: إِلَى الشَّيْطَانِ فِي حَالَةِ الْمَذَلَّةِ نَظَرَ عِبْرَةٍ، وَتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي مَا أَعْطَى سُلَيْمَانَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ قُوَّتُهُ عَلَى التَّشَكُّلِ الْمُقْتَضِيَةُ لِكَوْنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِهِ لِجَوَازِ أَنَّ اللَّهَ سَلَبَهُ تِلْكَ الْقُوَّةَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ سَلَبَهُ إِيَّاهَا لَمَّا أَمْسَكَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَ كَانَ حَارِسًا لِتَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ لِيَسْرِقَ مِنْهُ فَأَمْسَكَهُ فَاحْتَالَ فِي خَلَاصِهِ مِنْهُ بِتَعْلِيمِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَأَنَّهَا تَحْفَظُ قَارِئَهَا، فَظَنَّ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُحْتَاجٌ فَرَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَكَى ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ وَأَنَّهُ صَدَقَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذُوبًا، فَلَوْ قَدَرَ عَلَى الِانْفِلَاتِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِتَشَكُّلِهِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لَفَعَلَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ تَمَيُّزُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّ بَعْضَ أَتْبَاعِهِ حَكَمَ فِي الْجِنِّ، بِمَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ أَتْبَاعُ سُلَيْمَانَ اهـ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حِينَ التَّشَكُّلِ بِأَصْلِ خِلْقَتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَلُّتِ بِخِلَافِ تَشَكُّلِهِ بِالْأَشْكَالِ الْعَارِضِيَّةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، (" كُلُّكُمْ ") ، أَيْ: صِغَارُكُمْ وَكِبَارُكُمْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِخُطُورِ مَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِهَا بِبَالِهِ، (" فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ ") ، أَيِ: الَّتِي اسْتَجَابَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ طَلَبًا لِأَنْ يُمَيَّزَ بِخُصُوصِيَّةٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، كَمَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا لِيَفْضُلَ جَمِيعَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ أَوْ غَيْرَةً عَلَى مِلْكِهِ، وَنُفُوذِ حُكْمِهِ فِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَاءِ أَنْ يَنَالَهُ غَيْرُ نَبِيٍّ، (رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا) : فِي التَّنْزِيلِ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: ٣٥] وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ نُقِلَ بِالْمَعْنَى {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: ٣٥] ، فَرَدَدْتُهُ ") ، أَيْ: دَفَعْتُهُ (" خَاسِئًا ") ، أَيْ: خَائِبًا خَاسِرًا مَهِينًا صَاغِرًا، مِنْ خَسَأْتُ الْكَلْبَ فَخَسَأَ، أَيْ: زَجَرْتُهُ مُسْتَهِينًا بِهِ فَانْزَجَرَ وَخَسَأَ: مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ مُبْعَدًا يُقَالُ: خَسَأْتُهُ فَخَسَأَ، أَوْ يَكُونُ الْخَاسِئُ، بِمَعْنَى الصَّاغِرِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: يُرِيدُ أَنْ لَوْ رَبَطَهُ لَمْ تُسْتَجَبْ دَعْوَتُهُ، وَالْأَظْهَرُ لَوْلَا اسْتِجَابَةُ دَعْوَتِهِ لَرَبَطَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ قُلْتَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَذَكَّرَ دَعْوَةَ سُلَيْمَانَ بَعْدَ أَخْذِهِ، وَمِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي فِي آخِرِ الْبَابِ أَنَّهُ تَذَكَّرَ قَبْلَهُ فَيَتَنَافَيَانِ، قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَيْنِ صَدَرَا فِي وَقْتَيْنِ، قُلْتُ: أَوْ يَكُونُ الْأَخْذُ الْآتِي بِمَعْنَى الْأَخْذِ لِلرَّبْطِ، فَإِنَّهُ الْمُنَافِي لِلدَّعْوَةِ فَلَا مُنَافَاةَ، وَإِنْ قُلْنَا بِوَحْدَةِ الْقَضِيَّةِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute