وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ عَلَى مِنْوَالِ لِسَانِهِ وَحِكَايَةِ صَوْتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْإِلْقَاءِ، وَلَا قُدْرَةُ الْإِغْوَاءِ عَلَى سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَنَدِ الْأَصْفِيَاءِ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَجَدَ هَذِهِ السَّجْدَةَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُفْتَتَحِ السُّورَةِ مِنْ أَنَّهُ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: ٣] وَذَكَرَ شَأْنَ قُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، وَأَنَّهُ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى، وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا سَمِعُوا أَسْمَاءَ طَوَاغِيتِهِمُ اللَّاتِ وَالْعُزَّى سَجَدُوا مَعَهُ، وَأَمَّا مَا يُرْوَى أَنَّهُمْ سَجَدُوا لَمَّا مَدَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاطِيلَهُمْ فَقَوْلٌ بَاطِلٌ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الزَّنَادِقَةِ اهـ.
لَكِنَّ تَعْلِيلَهُ السَّجْدَةَ، بِمَا ذَكَرَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ سَجْدَتَهُ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ لَا سَجْدَةُ شُكْرٍ بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: سَبَبُ سَجَدَاتِ التِّلَاوَةِ فِي مَحَالِّهَا الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ، أَنَّ آيَاتِهَا مَسُوقَةٌ لِمَدْحِ السَّاجِدِينَ أَوْ ذَمِّ مَنْ أَبَى السُّجُودَ أَوِ الْأَمْرَ بِهِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ لَا سَجْدَةُ شُكْرٍ اهـ.
فَشَكَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى حُسْنِ التَّوَارُدِ، وَيُؤَيِّدُهُ عُنْوَانُ الْبَابِ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ رَدَّهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ الطِّيبِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ لَكِنَّ الشَّيْخَ ابْنَ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَطَالَ فِي ثُبُوتِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى ذَلِكَ فِي سَكْتَةٍ مِنْ سَكَتَاتِهِ، وَلَمْ يَفْطِنْ لَهَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَسَمِعَهَا غَيْرُهُ فَأَشَاعَهَا، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ السَّامِعُونَ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا جَرَتْ عَلَى لِسَانِهِ سَهْوًا وَنَبَّهَ عَلَيْهِ، قَالَ شَيْخُنَا عُمْدَةُ الْمُفَسِّرِينَ الشَّيْخُ عَطِيَّةُ نَقْلًا عَنْ شَيْخِهِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الْعِصْمَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ اهـ.
لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: إِجْرَاءُ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَبْرًا بِحَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: ٤٢] فَفِي حَقِّهِ بِالْأَوْلَى؛ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ جَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ سَهْوًا أَوْ غَفْلَةً مَرْدُودٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِ، سِيَّمَا فِي حَالِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ، وَلَوْ جَازَ لَبَطَلَ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهِ، ثُمَّ اخْتَارَ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَتَكَلَّمُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُسْمَعُ كَلَامُهُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَادَى يَوْمَ أُحُدٍ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، وَقَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} [الأنفال: ٤٨] (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute