وَتَوَقَّفُوا فِي صِحَّتِهَا. قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: وَالْحَقُّ مَعَ الْبُخَارِيِّ فِيهَا أَيْضًا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ، وَشُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ فِي عَدَدِ أَحَادِيثِهِ بِالْمُكَرَّرِ، وَإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي أَنَّ جُمْلَةَ أَحَادِيثِهِ مَعَ التَّعَالِيقِ، وَالْمُتَابَعَاتِ، وَالشَّوَاهِدِ، وَمَعَ الْمُكَرَّرَاتِ تِسْعَةُ آلَافٍ وَاثْنَانِ وَثَمَانُونَ حَدِيثًا، وَبِإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ أَحَادِيثُهُ الْمَرْفُوعَةُ: أَلْفَانِ وَسِتِّمِائَةٍ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَأَعْلَى أَسَانِيدِ أَحَادِيثِهِ، وَأَقْرَبُهُ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا يَكُونُ الْوَاسِطَةُ ثَلَاثَةً، وَوُجِدَ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي صَحِيحِهِ مَعَ الْمُكَرَّرِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، وَبِإِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَقَدْ أَفْرَدَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ اتَّفَقَتِ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَلَقِّي الصَّحِيحَيْنِ بِالْقَبُولِ، وَأَنَّهُمَا أَصَحُّ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ أَرْجَحُهُمَا، وَأَصَحُّهُمَا قِيلَ: وَلَمْ يُوجَدْ عَنْ أَحَدٍ التَّصْرِيحُ بِنَقِيضِهِ لِأَنَّ قَوْلَ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَصَحِّيَّتِهِ عَلَى كِتَابِ الْبُخَارِيِّ ; لِأَنَّ نَفْيَ الْأَصَحِّيَّةِ لَا يَنْفِي الْمُسَاوَاةَ. وَتَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَرْجِعُ لِحُسْنِ السِّيَاقِ، وَجَوْدَةِ الْوَضْعِ، وَالتَّرْتِيبِ ; إِذْ لَمْ يُفْصِحْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصَحِّيَّةِ، وَلَوْ صَرَّحُوا بِهِ لَرَدِّ عَلَيْهِمْ شَاهِدُ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ مَا يَدُورُ عَلَيْهِ الصِّحَّةُ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَوْجُودَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ، وَأَسَدَّ ; فَإِنَّ شَرْطَهُ فِيهَا أَقْوَى، وَأَشَدُّ، وَأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ فَلِاشْتِرَاطِهِ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي قَدْ ثَبَتَ لَهُ الِاجْتِمَاعُ بِمَنْ يَرْوِي عَنْهُ، وَلَوْ مَرَّةً، وَاكْتَفَى مُسْلِمٌ بِمُجَرَّدِ الْمُعَاصَرَةِ نَظَرًا لِإِمْكَانِ اللَّقْيِ، وَأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَالَةُ، وَالضَّبْطُ فَلِأَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ تُكِلِّمَ فِيهِمْ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ تُكِلِّمَ فِيهِمْ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ مِنْ إِخْرَاجِ حَدِيثِهِمْ بَلْ غَالِبُهُمْ مِنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ، وَمَارَسَ حَدِيثَهُمْ، وَمَيَّزَ جِيِّدَهَا مِنْ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مُسْلِمٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَفَرَّدَ بِتَخْرِيجِ أَحَادِيثِهِ مِمَّنْ تُكَلِّمَ فِيهِ، هُوَ مِمَّنْ تَقَدَّمَ عَصْرُهُ مِنَ التَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُحَدِّثَ أَعْرَفُ بِحَدِيثِ شُيُوخِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ عَنْهُمْ. وَأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشُّذُوذِ، وَالْإِعْلَالِ ; فَلِأَنَّ مَا انْتُقِدَ عَلَى الْبُخَارِيِّ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَقَلُّ عَدَدًا مِمَّا انْتُقِدَ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِمَا إِخْرَاجُهُمَا لِمَنْ طُعِنَ فِيهِ ; لِأَنَّ تَخْرِيجَ صَاحِبِ الصَّحِيحِ لِأَيِّ رَاوٍ كَانَ مُقْتَضٍ لِعَدَالَتِهِ عِنْدَهُ، وَصِحَّةِ ضَبْطِهِ، وَعَدَمِ غَفْلَتِهِ إِنْ خَرَّجَ لَهُ فِي الْأُصُولِ، فَإِنْ خَرَّجَ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَالشَّوَاهِدِ، وَالتَّعَالِيقِ كَانَتْ دَرَجَاتُهُ مُتَقَارِبَةً فِي الضَّبْطِ، وَغَيْرِهِ، لَكِنْ مَعَ حُصُولِ وَصْفِ الصِّدْقِ لَهُ فَالطَّعْنُ فِيمَنْ خَرَّجَ لَهُ أَحَدُهُمَا مُقَابِلٌ لِتَعْدِيلِهِ ; فَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ إِلَّا مُفَسَّرًا بِمَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، أَوْ فِي ضَبْطِهِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي ضَبْطِهِ لِخَبَرٍ بِعَيْنِهِ لِتَفَاوُتِ الْأَسْبَابِ الْحَامِلَةِ لِلْأَئِمَّةِ عَلَى الْجَرْحِ، إِذْ مِنْهَا مَا لَا يَقْدَحُ، وَمِنْهَا مَا يَقْدَحُ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَقْدِسِيُّ يَقُولُ فِيمَنْ خَرَّجَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي الصَّحِيحِ هَذَا جَازَ الْقَنْطَرَةَ يَعْنِي لَا يُلْتَفَتُ لِمَا قِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا مُقَدَّمَانِ عَلَى أَئِمَّةِ عَصْرِهِمَا، وَمَنْ بَعْدَهُمَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ، وَالْعِلَلِ، فَهُوَ أَصَحُّ الْكُتُبِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي أَحْمَدَ شَيْخِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِمَامُ الْمُحَدِّثِينَ، وَكُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي الْحَدِيثِ، وَأَفْرَدَهُ فَفِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْهُ فَالْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ حَتَّى إِنَّ مُسْلِمًا أَتَى بِأَحَادِيثِهِ مُفَرَّقًا فِي كِتَابِهِ، وَتَجَلَّدَ غَايَةَ التَّجَلُّدِ حَيْثُ لَمْ يُسْنِدْهَا إِلَى جَنَابِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَوْلَا الْبُخَارِيُّ لَمَا رَاحَ مُسْلِمٌ، وَلَا جَاءَ، أَخَذَ كِتَابَهُ، وَزَادَ عَلَيْهِ أَبْوَابَهُ. وَلِلْبُخَارِيِّ مُصَنَّفَاتٌ غَيْرُ الصَّحِيحِ: كَالْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالتَّارِيخِ الْكَبِيرِ، وَالْأَوْسَطِ، وَالصَّغِيرِ، وَخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَكِتَابِ الضُّعَفَاءِ، وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَالْمُسْنَدِ الْكَبِيرِ، وَالتَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ، وَكِتَابِ الْأَشْرِبَةِ، وَكِتَابِ الْهِبَةِ، وَأَسَامِي الصَّحَابَةِ، وَكِتَابِ الْوِجْدَانِ، وَكِتَابِ الْعِلَلِ، وَكِتَابِ الْكُنَى، وَكِتَابِ الْمَبْسُوطِ، وَكِتَابِ الْفَوَائِدِ. رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَوَيْتُ الْحَدِيثَ عَنْ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ مُحَدِّثٍ. رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ كَمُسْلِمٍ فِي غَيْرِ صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ فِي قَوْلِ غَيْرِهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ، قِيلَ: رَوَى عَنْهُ مِائَةُ أَلْفِ مُحَدِّثٍ. رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَعْيَنِ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ قَدَرْتُ عَلَى أَنْ أَزِيدَ مِنْ عُمْرِي فِي عُمْرِ الْبُخَارِيِّ لَفَعَلْتُ لَأَنَّ مَوْتِي مَوْتُ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمَوْتُ الْبُخَارِيِّ ذَهَابُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْعَالَمِ، وَنِعْمَ مَا قِيلَ:
إِذَا مَا مَاتَ ذُو عِلْمٍ، وَفَتْوَى ... فَقَدْ وَقَعَتْ مِنَ الْإِسْلَامِ ثُلْمَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute